الخميس، 18 أبريل 2013

فكّوا العاني ...

في نهاية سورة يوسف ، وبعد أن مكن الله تعالى لنبيه جاء :
( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )يوسف عليه السلام يحمد الله على نعمته الكبرى وهي إحراجه من السجن ، ويتجاهل مصيبة إلقائه بالبئر ، هو هنا ينسى إساءة إخوته الكبيرة عندما ألقوه في البئر رغم ما فيها من هلاك محقق ، ويحمد الله تعالى على نعمة الخروج من السجن ، فالسجن ابتلاء عظيم يسمى مدافن الأحياء ، والدفن حيا أعظم من دفن الميت ، وجاء في الأثر أن يوسف عليه السلام لما أراد أن يخرج من السجن كتب على بابه :
هَذَا قَبْرُ الْأَحْيَاءِ، وَبَيْتُ الْأَحْزَانِ، وَتَجْرِبَةُ الْأَصْدِقَاءِ، وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ .
والنبي  صلى الله عليه وسلم  قد أدرك هذا الأمر، وعلم شدة ألمه، وعظيم أثره، فقد جاء عنه  صلى الله عليه وسلم  أنه قال:« وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي »، أي أجاب داعي الملك لما أرسله إلى يوسف عليه السلام  ليخرج لمقابلة الملك، فلم يجب الداعي حتى يتبين الجميع من براءته، ويَظْهر للناس نزاهته وعفته .
، فنبينا  صلى الله عليه وسلم  يبين لو أنه لبث ما لبث يوسف عليه السلام لأجاب الداعي، ولعجَّل بالخروج من السجن، كل ذلك لعظم أمر السجن، وشدة قهره، وبلائه.
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:( فكاك الأسارى من أعظ الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات) مجموع الفتاوى(28/642). 
 عندما عاد أبو جعفر المنصور من بعض غزواته، لقيته امرأة، وقالت له: يا منصور، استمع ندائي، أنت في طيب عيش وأنا في بكائي. فسألها عن مصيبتها التي عمتها وغمتها، فذكرت له أن لها ابناً أسيراً في بلاد سمتها، وأنها لا يهنأ عيشها لفقده، ولا يخبو ضرام قلقها من فقده، وأنشد لسان حالها ذلك الملك المعلى:( أيا ويح الشجيّ من الخليّ ) فرحب المنصور بها، وأظهر الرقة بسببها، وخرج من القابلة إلى تلك المدينة التي فيها ابنها، وجاس أقطارها وتخلَّلها حتى دوخها، إذ أناخ عليه بكلكله وذلَّلها، وأعراها من حماتها، وببنود الإسلام المنصورة ظلَّلها، وخلص جميع ما فيه من الأسرى، وجلبت عوامله إلى قلوب الكفرة كسراً، وانقلبت عيون الأعداء حسرى). (نفح الطيب1/597: نقلاً عن كتاب صلاح الأمة في علو الهمة6/214).
ويومَ رجعَ الأمير الحاجب المنصور من جهادِه بنصرٍ عزيز مؤزر في 16 السادس عشر من يونيو الموافق الخامس عشر من صفر 609 هـ..، يذكر بعض المؤرخين المسلمين أن تعداد الجيش الإسلامي وصل لثلاث مئة ألف مقاتل وآخرون يوصلون العدد لنصف مليون مقاتل لكثرة المتطوعين فيه .وكان صبيحةَ عيدِ الأضحى المبارك ، والناسُ يُهللون ويُكبرون في المساجد والطرقات ، فقبلَ أن يَنزِلَ عن جوادِه اعترضتْ طريقَه امرأةٌ عجوز قائله :
” يا منصور ، كلُّ الناسِ مسرورٌة إلا أنا ، فقال المنصور: لما ذا ؟
قالت: ولدي أسيرٌ عندَ الصليبين في حِصن رباح.
فإذا هو يرفض النزولْ عن ظهرِ جوادِه ، و إذا به يلوي عنقَ فرسِه مباشرةً وينادي في جيشِه ألّا ينزلَ أحدٌ عن فرسِه ، ثم ينطلقُ متوجهاً كالسهم الخارق إلى حِصنِ رباح ، وظلُّ يجاهدُهم حتى فتحَ اللهُ على يديه ذلك الحِصن ، وُرجعُ بأسرى المسلمين إلى أهلِهم ليشهدوا مع أهلِهم فرحةَ العيد ، وكان من بينهم ولدُ المرأةِ العجوز ، ففَرِحتْ ودعتْ للمنصورِ بخير.
وقد كان السلطان محمد الناصر معلنا الجهاد وأمرا بتجهيز الجيوش لإيقاف المد الصليبي ، وسائرا بقواته إلى الأندلس ليستقر في اشبيلية ومرسلا جزءا من جيشه لتحرير – قلعة رباح – ذات الموقع الإستراتيجي و حصن رباح يقع وسط الأندلس وأغار على جيان وبياسة وأجزاء من مرسية. و قد استطاع المسلمون أن يغزوا ذلك الحصن الذي كلله الأمير بالنصر وعودة الأسرى. على الرغم من أن ألفونسو الثامن و البابا آنوسنت الثالث معلنا حربهم الصليبية في أوروبا وكان للبابا أمر – حرب صليبية لا يحل الغفران على من لا يساعد أو يشارك فيها – لذا أرسلت أوربا كلها الجنود والمؤن لدعم التحالف النصراني .
ففكاك الأسير، والمسارعة في نجدته، والحرص على الوقوف معه، وبذل كل مجهود لتخليصه من الأسر، مما أمر به الشارع الحكيم، فنصرته والسعي إلى فكاكه واجب شرعي على الكفاية.