الثلاثاء، 5 مارس 2013

في حــق الأخـــــوة ....



قال يحيى بن معاذ : حظ المؤمن منك ثلاث خصال؛ لتكون من المحسنين : إحداهما : إن لم تنفعه فلا تضره.
الثانية : إن لم تسرَّه فلا تغمه .
والثالثة : إن لم تمدحه فلا تذمَّه .

قال الإمام الشافعي:
من علامات الصادق من اخوة أخيه :
أن يقبل علله، ويسد خلله، ويغفر زلـله . 
قال الحسن : لأن اقضي حاجة لأخ أحبّ إليَّ من أن أعتكف سنة . وقال : خصلتان ليس فوقهما شيء : الإيمان بالله ونفع الإخوان ..

الإخلاص والحكمة عندما يجتمعا

الإخلاص والحكمة عندما يجتمعا

يذكر أنه في زمن أبي جعفر المنصور ، دخل عليه رجل مجوسي يدعي الإيمان . فقال : إن رائحة الطائفين حول الكعبة تزعج البعض فلو وضعت على ظهر الكعبة بخوراً وناراً لإن هبت الريح شم الناس ريحاً طيباً . فأمر الخليفة بفعل ذلك . وهذه قضية المجوس: الطواف وعبادة النار . فبلغ ذلك العالم يزيد بن النقاش ، فقال : انشروا بين الناس أني ذاهب للحج.
فقال أبو جعفر : نذهب معه لنتعلم منه، فتواعد كلاهما أن يلتقيا في التنعيم ليلقي أبو اليزيد درساً في مناسك الحج. فاجتمع الناس وفيهم أبو جعفر. فقال أبو اليزيد : "إذا قلت أما بعد ، استوقفني. وأحمد الخليفة ، أنه فعل كذا وكذا، حتى إنه وضع البخور على ظهر الكعبة. فبدأ أبو اليزيد حديثه ، فحمد الله ثم قال : أما بعد. فاستوقفه المريد وقال ما أمره به أبو اليزيد .
فقال أبو اليزيد : إخسأ يا هذا أأنت أفقه من أمير المؤمنين ؟ أمير المؤمنين أفقه مني ومنك وأعلم بكتاب الله مني ومنك. كيف تتدعي على أمير المؤمنين كذباً أنه يفعل كما تفعل المجوس نطوف حول النار. وانفعل أبو اليزيد حتى قال أمير المؤمنين لأحدهم : اذهب بسرعة وانزل البخور وأطفؤوا النيران. فانتهى الأمر بأدب، دون تجريح لأحد .

السلق بألسن الإخوان ....

السلق بألسن الإخوان ....

بعض المشايخ مولعين بنقد وقدح واتهام إخوانهم من المشايخ، فلا حديث لهم إلا مخالفيهم، تجريحا واتهاما وحط من شأنهم وعملهم، ومكانتهم، ويتركون غلاة الكفار من أهل الشرك والكفر والإلحاد آمنين من ألسنتهم، وإذا قيل لهم هذا لا يجوز قالوا أنتم إخواننا وأهل الإسلام واجبنا أن نقيمكم أما أهل الكفر فلا نصيحة لهم عندنا، وإذا قيل لنصيحة المسلم آداب منها أن لا تكون على رؤوس الأشهاد وأن لا يعتريها تخوين وتكفير وشتم ، قالوا كذلك الأب يقسوا على أبنائه ولا يقسوا على أولاد الناس، فيا له من منطق سخيف ، وما أشبه ذلك بقصة الشيخ واصل بن عطاء مع الخوارج. 
يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة :
إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا : شأنك. فخرج إليهم، فقالوا ما أنت وأصحابك ؟ قال : مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويعرفوا حدوده. فقالوا قد أجرناكم قال : فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم ، وجعل يقول : قد قبلت أنا ومن معي. قالوا : فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال : ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى : وإن أحد )
فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضه إلى بعض ثم قالوا : ذاك لكم، فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن.

لقاحــــات ربانية ....

لقاحــــات ربانية .... 

يقول الله تعالى في سورة السجدة:
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ٍ24} .       
ابن القيم رحمه الله في كتابه ( الفوائد ) فكك عناصر هذه المعادلة، فإذا اجتمع الصبر مع اليقين أورثا الإمامة في الدين، وعبر عن التفاعل بين الصبر واليقين بالتلاقح، فقال :الصبر لقاح اليقين، فإذا اجتمعا أورثا الإمامة في الدين.

ومن اشهر المعادلات الذي ذكرها ابن القيم:
v   الطلب لقاح الإيمان، فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمرا العمل الصالح.
v   الخشية لقاح المحبة، فإذا اجتمعا أثمرا امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
v   العمل لقاح العلم، فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة.
v   العزيمة لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما السيادة في الدنيا     والآخرة.
v   التقوى لقاح التوكل، فإذا اجتمعا استقام القلب.
v   النصيحة لقاء العقل، فإذا اجتمعا أنتجا الحكمة والسداد.
v   لقاح الهمة العالية النية الصحيحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد.
v   الصبر لقاح البصيرة ، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما .

اللقمـــــة الحــلال ....

اللقمـــــة الحــلال ....  
قال عمر بن سليمان : سألت أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ : بم تلين القلوب ؟؟
فنظر إليّ ثم أطرق لحظات وقال: بأي شيء ! بأكل الحلال . قال عمر فذهبت إلى أبي النصر ، فقلت له يا أبا النصر : بم تلين القلوب؟ فقال : ألا بذكر الله تلين القلوب. فقلت له : فإني سألت أبا عبد الله، فتهلل وجهه وقال : وبم أجاب ؟ قلت : قال لي بأكل الحلال ، فقال : جاءك بالأصل .
قال أبو بكر عبد الله الباجي الزاهد : خمس خصال بها تمام العمل : الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحقّ ، وإخلاص العمل لله ، والعمل على السنّة ، وأكل الحلال ، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل ، فإذا عرفت الله ولم تعرف الحق لم تنتفع، إن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص لم تنتفع ، وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع ، وإن تمت الأربعة ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع .
وقال وهب بن الورد : لو قمت مقام هذه السارية ( تقيم الليل أبدا ) لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك من حلال أو حرام .
روي عن أبي سعيد الخدري أنهم خرجوا مع الرسول ـ في سفر فنزلوا رفقاً ، رفقة مع فلان ، ورفقة مع فلان ، قال : فنزلت في رفقة أبي بكر، فكان معنا أعرابي من أهل البادية، فنزلنا بأهل بيت من الأعراب وفيهم امرأة حامل ، فقال لها الأعرابي : أيسرك أن تلدي غلاما ؟ إذا أعطيتني شاة ولدت غلاما، فأعطته شاة وسجع لها أساجيع ، قال : فذبح الشاة، فلما جلس القوم يأكلون قال : أتدرون من أين هذه الشاة؟ فأخبرهم فرأيت أبا بكر يضع يده في فيه ويتقيأ .                                                                                                      

مفاتيح الخير ومفاتيح الشر ...

مفاتيح الخير ومفاتيح الشر ...

كان يقال لكل باب مفتاح ، وكان لفظ المفتاح يقترن عند السامع بقطعة حديد ثقيلة تشبه المطرقة ذات أسنان ..                                                                                                                                                                          
واليوم نعرف أن ابن القيم رحمه الله كان أدق في التعبير عندما قال : لكل مطلوب مفتاح ..
فرقم الهاتف هو مفتاح خط الهاتف المطلوب للأخذ والرد ..
ورقم الحساب في البنك هو مفتاح البنك للسحب والإيداع ..
في الحديث الشريف : مفتاح الجنة لا إله إلا الله .
وفي القول السائر : الصبر مفتاح الفرج ....
و الإمام ابن القيم ذكر في كتابه القيم " حادي الأفراح إلى بلاد الأفراح " أن الله جعل لكلِّ خير وشر مفتاحا وبابا يدخل منه إليه، ويقول إن هذا الباب باب عظيم من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، لا يصدق به إلا كلّ من له بصيرة صحيحة وعقل يعرف ما في نفسه والوجود مكن الخير الشر .
ومن الأمثلة على هذه المفاتيح قول الإمام : مفتاح الصلاة الطَّهور( الوضوء ) . فلكي تحسن الصلاة عليك أن تحسن الوضوء أولا، حتى أن العلماء قالوا : إذا أخطأ الإمام ولُبس عليه في الصلاة، فإن هذا دليل  على أن من خلفه لم يحسن الوضوء . 
فلو توضأ الواحد منا ونظر في آيات الله في الماء أصل كل حي ، وأن الإيمان حياة والكفر موت، وأن الصلاة هي شعار المؤمنين ، وأن الذنوب تتساقط مع ماء الوضوء من تحت الأظافر ومن بين الأسنان كما ذكر الحديث الشريف ، فكيف ستكون صلاتنا ؟؟!!
من مفاتيح الخير الذي ذكرها ابن القيم :
وقد جعل الله سبحانه لكل مطلوب مفتاحا ، يفتح به ، فجعل  مفتاح الصلاة الطهارة، ومفتاح الحج الإحرام ، ومفتاح البر الصدق ، ومفتاح الجنة التوحيد ، ومفتاح العلم حسن السؤال حسن الإصغاء ، ومفتاح النصر والظفر الصبر ، ومفتاح المزيد الشكر ، ومفتاح الولاية المحبة والذكر ، ومفتاح الفلاح التقوى ، ومفتاح التوفيق الرغبة والرهبة ، ومفتاح الإجابة الدعاء ،  ومفتاح الرغبة في الآخرة الزهد في الدنيا ، ومفتاح الإيمان التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه ،  ومفتاح الدخول على الله إسلام القلب وسلامته له والإخلاص له في الحب والبغض والفعل والترك ، ومفتاح حياة القلب تدبر القرآن والتضرع بالأسحار وترك الذنوب،  ومفتاح حصول الرحمة الإحسان في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده،  ومفتاح الرزق السعي مع الاستغفار والتقوى ،  ومفتاح العز طاعة الله ورسوله ، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل ، ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة .
ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل ، و جعل الشرك والكبر والأعراض عما بعث الله به رسوله والغفلة عن ذكره والقيام بحقه مفتاحا للنار ،  و جعل الخمر مفتاح كل أثم ، وجعل الغنى مفتاح الزنا ، وجعل إطلاق النظر في الصور مفتاح الطلب والعشق ، وجعل الكسل والراحة مفتاح الخيبة والحرمان، وجعل المعاصي مفتاح الكفر ، وجعل الكذب مفتاح النفاق ، وجعل الشح والحرص مفتاح البخل  وقطيعة الرحم وأخذ المال من غير حله ،  وجعل الأعراض عما جاء به الرسول مفتاح كل بدعة وضلالة .
وهذه الأمور لا يصدق بها إلا كل من له بصيرة صحيحة وعقل يعرف به ما في نفسه وما في الوجود من الخير والشر فينبغي للعبد أن يعتني كل الاعتناء بمعرفة المفاتيح وما جعلت المفاتيح له والله ومن وراء توفيقه وعدله له الملك وله الحمد وله النعمة والفضل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

مُحَيّصَــة وَحُوَيّصَـــــــة


من القلوب الغافلة ، ما يستفيق بضربة لطيفة ..  
ومن القلوب الغافلة ، ما لا يستفيق إلا بصعقة عنيفة ..
وفي قصة حويصة ومحيصة مثلا لتلك القلوب التي تستفيق بالصعقة، صعقة حق في موقف مفاصلة، توقظ القلب الغافل، وتذيب عنه طبقة الران التي تحجب نور الإيمان عن شغافه  ..
محيصة بن مسعود من الأوس من الصحابة الكرام، شهد أحد والخندق ، وكان من رسل النبي إلى القبائل، كان شريكا في التجارة مع أخيه الأكبر حويصة الذي كان مشركا، وكانت تربط الشقيقين علاقة تجارية قوية مع تاجر يهودي من بني قريظة اسمه كعب بن يهوذا. 
ولما أظفر الله رسوله على يهود بني قريظة ، قال النبي _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _:
ـ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه .
فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الأوسي على ابن يهوذا ،  وهو رجل من تجار يهود كان يعاملهم ويبايعهم، فقتله، وكان أخوه  حويصة بن مسعود أسن منه ، ولم يُسلم بعد، فلما قتله جعل حويصة يضربه ، ويقول لِأَخِيهِ مُحَيّصَة:
أَقَتَلْت كَعْبَ بْنَ يَهُوذَا ؟
 قَالَ :  نَعَمْ .
فَقَالَ حُوَيّصَة : أَمَا وَاَللّهِ لَرُبّ شَحْمٍ قَدْ نَبَتَ فِي بَطْنِك مِنْ مَالِهِ إنّك لَلَئِيمٌ يَا مُحَيّصَة .
 فَقَالَ لَهُ مُحَيّصَة : لَقَدْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ مَنْ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِك لَقَتَلْتُك .
 فَعَجِبَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمّ ذَهَبَ عَنْهُ مُتَعَجّبًا . فَذَكَرُوا أَنّهُ جَعَلَ يَتَيَقّظُ مِنْ اللّيْلِ فَيَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ أَخِيهِ مُحَيّصَة . حَتّى أَصْبَحَ وَهُوَ يَقُولُ :  وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَدِينٌ . ثُمّ أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ .
فانظر إلى شدة محيصة في الجهر بالحق إذ لم يجادل ولم يهادن ولم يعايش – حسب ما يقتضيه تعبير هذا الوقت – ولم يتردد أمام أخيه الأكبر منه سنا وكيف كانت لطمة الحق هذه سببا يسره الله تعالى لزلزلة جليد الغفلة والضلال عن قلب حويصة،  وانظر كيف كان يكون الأمر لو أن محيصة تخاذل وجامل .

الواعظ الحنفيُّ .. منفيُّ عــكا

الواعظ الحنفيُّ .. منفيُّ عــكا 

 ( صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت أمتي.
 قيل : يا رسول الله ومن هما؟
قال: الفقهاء والأمراء )

ومما جاء في الأثر :
إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك ، فبئس العلماء وبئس الملوك
وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم الملوك ونعن العلماء ..

جاء في كتاب " حلية البشر في القرن الثالث عشر " للشيخ عبد الرازق البيطار :
كان الشيخ صادق الحنفي إماما كاملا، وعالما عاملا ، لا يخشى سطوة أمير مكابر ، ولا إمام جائر ، وفي سنة 1285 هـ حضر إلى دار السلطنة العلية وعاصمة الأمة الإسلامية ، في أيام خلافة السلطان عبد العزيز خان ، وكان دخول الشيخ صادق أوائل رمضان ، فكان يقرأ درس الوعظ في ( أيا صوفيا) إلى اليوم السابع والعشرين، وقد جرت العادة أن السلطان في ذلك اليوم يدور على الدروس في المساجد، فمتى أتى لدرس يختم المدرس الكلام، ويدعو للسلطان ، ومعه وكلاء الدولة العظام وشيخ الإسلام.
 فلما وصل لدرس الشيخ صادق، لم يختم الدرس ولم يدع ، بل التفت إلى الوكلاء ، وخاطبهم بكونهم أدخلوا على السلطان الغرور ، وأبطلوا الشريعة وارتكبوا سفاسف الأمور، ونكّسوا إعلام الدين، وقدموا المخالفين على المؤمنين، وأطال الكلام وتجاوز الحد في هذا المقام ، والسلطان صاغ إليه، فحقد الوكلاء عليه.
 وبعد أن ختم ذهب، وقد أضمروا له كلَّ عطب ، ثم بعد ذلك اجتمع والوكلاء ودخلوا على السلطان، فتكلموا في حق الشيخ صادق ما غير قلب أمير المؤمنين عليه، وقالوا له :
 قد فعل ما أوجب توجيه المضرّة إليه، فلا بدّ من إعدامه، ليتأدب غيره من عن التكلّم بمثل كلامه.
فقال أمير المؤمنين: نعم، ولكن لا بدّ من مرافعتكم معه في مجلس شيخ الإسلام، لئلا يقول الناس قُتل ظلما، فنقع بين العموم في الملام .
 فلمّا أحس شيخ الإسلام ذلك اختلى بالسلطان وقال له : إن قتلناه، قيل بالعبارات الصحيحة : إن السلطان قد قتله لبذله النصيحة، ولكنّ نفيهُ أولى ، ورأي أمير المؤمنين أعظم وأولى ، فأمر السلطان بنفيه في الحال، فأرسل إلى عكا من غير إهمال .

وخير ما نعلّق به على هذه القصة ، كلمات من لباب الحكمة ، للإمام ابن النحاس الدمشقي كما وردت في كتابه " تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين "  :
" فمن أخلص لله النيّة أثّر كلامه في القلوب القاسية فليّنها ، وفي الألسن الذّرِبة فقيدها، وفي الأيدي السَلَطة فقيدها .
فإذا نظرنا إلى فساد الرعية و جدنا سببه فساد الملوك، وإذا نظرنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء، وإذا نظرنا إلى فساد العلماء وجدنا سببه ما استولى على ما هم من حبّ المال والجاه وانتشار الصيت ونفاذ الكلمة، ومداهنة المخلوقين وفساد النيَّـات في الأفعال والأقوال، وإذا أراد واحد منهم أن ينكر على الرعية لم يستطع ذلك، فكيف يستطيع الإنكار على الملوك والتعرض للمهالك، ومفارقة ما استولى على قلبه من حب المال والجاه .

اللهم استر فضايحنا وتولَّ مصالحنا
اللهم خذ بأزمة قلوبنا إليك ،
اللهم استعملنا فيما يرضيك يا أرحم الراحمين.. "

احذر التســــبيح ....



قال الفضيل بن العياض ـ رحمه الله ـ :
" ربما قال الرجل: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، فأخشى عليه النار. قيل: وكيف ذاك؟ قال: يغتاب بين يديه، ويعجبه ذلك: فيقول: لا إله إلا الله، وليس هذا موضعه، وإنما موضع هذا أن ينصح له في نفسه، ويقول له أتق الله" .

ومثلها: أن يقال للرجل الشجاع الذي يقتحم الصعاب لإنقاذ إنسان أو لهزيمة عدو:( ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة )  وقد وردت هذه الآية في سياق النفقة، والتهلكة هنا هي ترك الإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى :
{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  (195) }

ومثلها أن يُقال للرجل يريد أن يؤدب أولاد غيره من الأقارب والأهل فيقال له : ( أولى لك فأولى)  يقصدون ابدأ بأولادك ، والآية وردت في مقام التهديد والوعيد لمن كذب وتولى .

ومثلها أن يقال للرجل في السوق ( ادفع بالتي هي أحسن ) في باب التهديد والوعيد ، والأصل أن هذه الآية لمقابلة السيئة بالحسنة . 
ومثله قول بعضهم لشخص ما حلف بالله على أمر:  { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } [البقرة :224] ويقصد أن لا يحلف هذا الشخص على كل شاردة وواردة ، ولكن معنى الآية مغاير تماما لما أراد، ولو أتمّ الآية لبان له المقصود منها :{ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}  ومعنى الآية  ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم:  لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفِّر عن يمينك واصنع الخير.

الشـــحنة الإيمانية ....

الشـــحنة الإيمانية ....

هذا أخ يمرًّ بجوار المسجد والمؤذن ينادي للصلاة، فيواصل الأخ سيره ويصلي في بيته، أو مكتبه، أو متجره ، أو معمله ، وإذا ما لقيته شكا لك قسوة القلب ، وغياب طمأنينة الإيمان عنده !!!
وهذا أخ ، يفضّل أن يقضي وقت فراغه أمام التلفاز، أو في السهر مع الخلان ، ثم يشكو جفوة القلب وذهاب حلاوة الإيمان منه !!!
شتان شتان بين مثل هؤلاء ، وبين رجل قلبه معلّق في المساجد ، مصباح هدى ويقين ينير بنور المسجد، ويشحن القلب بشحنات إيمان ربانية تهديه خارج المسجد، رجل ممن شهد الله تعالى له بالإيمان، لأنه ممن يعمرون مساجد الله تعالى الذي ملأ بنوره السموات والأرض . 
إن العلاقة بين عمارة المساجد والإيمان علاقة ثابتة إلا أنها تغيب عن كثير من المسلمين، فقد أسقط البعض  من حساباته ومن مهماته الاعتكاف في المسجد أو قضاء بعض الوقت فيه، أو المشاركة في نشاطاته، وتلك من مصائد الشيطان، والعياذ بالله.

 ضرب الله لنا مثلا لنوره آية المشكاة من سورة النور، وفي الآية التي تليها أوضح لنا أين يكون نوره :
 { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ 37} [ سورة النور ]

 فأصل الاقتباس من نور الله تعالى يكون في بيوت الله تعالى وهي المساجد ، فالمسجد هو مكان شحن القلوب بطاقة الإيمان وبنور هداية القرآن، فإذا طال مكوثنا في المساجد واعتكافنا فيها قوية شحنة الإيمان في القلب .
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها ،  فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟
قالوا : وما ذاك يا أبا هريرة؟
قال: ذاك ميراث محمد _ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ يقسم وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: أين هو؟ قال : في المسجد.
فخرجوا سراعا، ووقف أبو هريرة ـ رضي الله عنه  ـ لهم حتى رجعوا. فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، لقد أتينا المسجد، فلم نر شيئا يقسَّم. فقال لهم : وما رأيتم في المسجد؟
قالوا: رأينا قوما يصلون ،وقوما يقرأ ون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة ـ رضي الله عنه  ـ : ويحكم فذاك ميراث محمد ـ صَلَّى الله ُعَلَيِّهِ وَسَلَّمَ ـ. (رواه الطبراني في الكبير)  

عن عمير بن المأمون، قال: سمعت الحسن بن علي يقول:
" من أدام الاختلاف إلى المساجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة، وأخا مستفادا، وعلما مستطرفا، ورحمة منتظرة، وكلمة تدله على هدى، وترك الذنوب رجاء أو خشية "  . 

وعن محمد بن المنكدر قال :
  " خلفت زياد بن أبي زياد مولى أبن عياش يخاصم نفسه في المسجد فيقول :
أجلسي أين تريدين؟ أين تذهبين؟ أتخرجين إلى من أحسن من هذا المسجد؟ انظري إلى ما فيه، تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان؟
قال : وكان يقول لنفسه: ومالك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت، ومالك من الثياب إلا هذان الثوبان، ومالك من النساء إلا هذه العجوز، أتحبين أن تموتي؟ فقالت: أنا اصبر على هذا العيش. ( محاسبة النفس لابن أبي الدنيا93 ـ 94 ) .