الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

جواب الشيخ محمد عبد المُكست ..

جواب الشيخ محمد عبده المُسكِت...

   أجمل ما يقرأ المرء ذلك ما صنفه العرب تحت باب الأجوبة المُسْكِتة ، فهناك الكلمة الواضحة ، والفكرة العميقة ، والحجة المفحمة ، وخير الأجوبة المسكتة ما جاء في القرآن الكريم ، انظر مثلا في المناقشة التي جرت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود :
 ]أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بالشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ [   .  
وجاء في كتاب ربيع الأبرار : أن رجلا قال لجعفر بن محمد الصادق : ما الدليل على الله، ولا تذكر لي العلم والعرض والجوهر ؟ فقال له : هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، قال :هل عصفت بكم الريح حتى خِفتم الغرق؟ قال : نعم ، قال : فهل انقطع رجاؤك من المركب والملاحين؟ قال : نعم ، قال :تتبعت نفسك أن ثَمَّ من ينجيك؟ قال : نعم ، قال : فإن ذاك هو الله ، قال الله تعالى :  ]وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُ في البَحْرِ ضلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلا إياه [ ، ] وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ .
و رُوِيَ عن أبي حنيفة : أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الله تعالى فقال لهم : إني مُفَكِّر في أمر قد أُخْبرت عنه :  ذكروا لي أن سفينة في البحر فيها بضاعة وحمولة ،وليس بها أحد يقودها ،ولا يحرسها ومع ذلك تذهب وتجيء بنفسها في مقاومة الأمواج ، وترسو على الشواطئ ما بالكم أتصدقون ؟
 قالوا  : هذا شيء لا يقوله عاقل .
 فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم ،وما اشتملت عليه ليس لها صانع ! فبهت القوم وأسلموا على يديه .
في نهاية القرن التاسع عشر عين الخديوي حلمي باشا الشيخ محمد عبد مفتيا للديار المصرية ، وكان الخديوي يستقبل زعماء الطوائف في مصر بوصفه الحاكم ،  وكان يزوره قادة اليهود والنصارى ، ويجري بينهم نقاش في الدين والدنيا ، أحس الخديوي بسطحية ثقافته الدينية ، فحار في الدين الحق ، فسأل أحد معاونيه :
ـ من أعلم أهل مصر بالإسلام ؟
فقال المعاون : الشيخ محمد عبده  .
قال الخديوي  : حسنا ، ومن أعلم أهل مصر بالمسيحية ؟
قال المعاون : سيادة بابا القبط  .
فسأل  : ومن أعلم أهل مصر باليهودية ؟
قال المعاون : الحاخام الأكبر .
قال: أطلب منك أن تدعو الشيخ والبابا والحاخام إلى القصر على وجه السرعة .
وتم ما أراد الخديوي ، حضر الثلاثة ، وأعد لهم الملك مجلسا ، وبعد السلام والمجاملة ، قال الخديوي: اسمعوا ، أريد من كل منكم أن يقدم لي حجة واحدة فقط ، يثبت فيها أن دينه الصحيح ، دون أن يدخل في الفلسفة ، حجة واحدة فقط لا يزيد عليها ، ثم قال : ـ تفضل يا سيادة الحاخام .
قال الحاخام بتواضع مصطنع :
ـ شكرا لتقديمي ، ولكني أقدم الكلام لسيادة البابا .
قال الملك : حسنا ، تفضل يا سيادة البابا .
فقال البابا : شكرا لكم ، وأنا بدوري أقدم الشيخ فهو أكبرنا سنا ( رغم أنه كان أصغرهم ، فمن المعروف أن الشيخ توفي في الثامنة والخمسين ) .
قال الخديوي : لا بأس ، تفضل يا شيخ .
أدرك الشيخ ذكاء محاوريه ، فهم يُريدون منه أن يبدأ بقضية ، ويَرُدُّون بأحسن منها كما في المبارزات الشعرية بين الفرزدق وجرير والأخطل أمام الخليفة عبد الملك  ، ففكر الشيخ قليلا ، وقال :
ـ لا بأس ما دمتم قدمتموني فسوف أقول ، ولكن قبل قولي علينا أن نتفق جميعا على جواب سؤال : ما هي غاية الدين الكبرى ؟
قال الحاخام : الحياة الأبدية .
قال البابا : الدينونة .
قال الشيخ : أحسنتم ، غاية الدين متعلقة بالفوز بعد الموت .
فقال الملك : غاية الدين نيل رضا الله ودخول الجنة ، أتوافقون ؟
فقبلوا جمعيا ما لخصه الملك من إجابات ، فقال الشيخ :
ـ إذا دخل اليهود الجنة سيدخل معهم النصارى والمسلمون لأن أتباعهما يؤمنون بموسى عليه السلام ورسالته ، وإذا دخل النصارى الجنة فسيدخل معهم المسلمون لأنهم يؤمنون بعيسى ورسالته ، ولن يدخل معهم اليهود لأنهم لا يؤمنون بعيسى ورسالته ، أما إذا دخل المسلمون الجنة فلن يدخل معهم لا اليهود ولا النصارى لأنهم لا يؤمنون برسالة محمد r .
فأسقط في يد الحاخام والبابا ، نظر الملك إلى الجميع وقال :
ـ لقد قضي الأمر ، انصرفوا إلى أعمالكم .

كم ثمن صلاتك ؟!

كــم ثمـــن صــــلاتك ؟

قال تعالى في سورة آل عمران :
] إِنَّ الَّذِيِنَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدَ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنَاً قَليلاً أُوْلئِكَ لاَ خَلقَ لَهُمْ في الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلَّمَهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظْرُ إِليْهِم يَومَ القِيامةِ ولاَ يُزَكْيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أليمُُ  [  (آل عمران:77)
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ فَاتَهُ صَلاةُ الْعَصْـرِ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ .
لو تجرأنا بالسؤال : كم دينارا ثمن إيمانك بالله ؟ أو كم من المال لو أعطيت تكفر بالله ؟ أو أي مبلغ من المال لو أعطيته راودتك نفسك بالكفر ؟ سؤال لا يخلو من الوقاحة ، لأننا تجرأنا ووضعنا المال أمام المبدأ والضمير والعقيدة ، ولكنه جد واقعي ، فما دام الإيمان يزيد وينقص فهو يغلو ويرخص ، ولكن الناس لا يحبون مثل هذه الأسئلة ، رغم أن الكثيرين يبيعون دينهم بغرض تافه من أغراض الدنيا ، وكثير من الآيات تتحدث عن الذين يشرون أنفسهم ويشترونها ، وجاءت يشرون في باب المدح في القرآن ، وجاءت يشترون في باب الذَّم بصورة عامة .
سمعت في أحد البرامج الدينية هذه القصة الطريفة :
كان شيخ يدرس في أحد المساجد في العاصمة السويدية ، ودخل رجل المسجد ، وصار  ينظر في أنحاء المسجد ، ولم يصلّ ركعتين ، فعرف الشيخ أن الرجل مسلم تارك للصلاة قادته رجلا الفضول للمسجد أو جاء يسأل عن أحد الناس ، فدعاه الشيخ للجلوس في الحلقة وبعد  التعارف ، غيّر الشيخ مسار الدرس قاصدا إيصال موعظة إلى  الجالس الجديد ، فقال : في هذه الدنيا لكل شيء ثمن ، فبعض الناس لا يبيع أمانته بدينار ، ولكنه قد يبيعها بمليون دينار ، فأمانة الأول ثمنها دينار ، وأمانة الثاني ثمنها مليون دينار . والصلاة أيضا لها ثمن ، وأسألكم بحق الله تعالى عليكم كم ثمن صلاة كل منكم ؟ فأجيبوا ولا تدلسوا .
 تردد الجالسون واستنكروا السؤال ، وبدا منهم ما يدلُّ على ذلك ، أدرك الشيخ ذهول المفاجأة وقال لهم : أنا إمام المسجد وأعرف أن لصلاتي ثمنا ، وإذا فتنت لا آمن على نفسي كما كان الفاروق عمر لا يأمن على نفسه من جارية سوداء رأسها كالزبيبة ، وأجعل السؤال : عند أي مبلغ من المال تراودك نفسك بترك الصلاة ؟ ولصلاتي ثمن أخبركم عنه أخيرا كي لا تقيسوا عليه . تشجع أحد الحاضرين وقال : قد يوسوس لي الشيطان بعشرة آلاف ، وقال الثاني : بعشـرين ، وقال الثالث : بنصف مليون ، وبخمسة ملايين .. وهكذا حتى وصل إلى الضيف الجديد فقال له : وأنت يا أخي كم ثمن صلاتك ؟ فتردد الضيف ثم قال : أنا يا شيخ للأسف لا أصلي ، فقال الشيخ : كيف تترك كنزا عظيما يساوي الآلاف والملايين بلا مقابل !!
فبهت الجالس ولم يعرف جوابا ، وحفر السؤال في قلبه إشارة مرور تهديه إلى الصراط المستقيم . 
هل نستطيع بعد ذلك أن نقول :
التاجر الذي تفوته صلاة الجماعة ليربح قرشا ، أن الصلاة في جماعة عنده تساوي قرشا؟
وأن الشاب الذي يترك جلسة القرآن حبا في السمر والسهر ،أن جلسة القرآن عنده تساوي نكتة أو قصة سخيفة  ؟
وأن المسلم الذي تفوته صلاة الفجر ليكسب ساعة نوم أن صلاة الفجر عنده تساوي غفوة قصيرة ؟

ليس للعبد أن يختبر ربه ...

ليس للعبد أن يختبر ربه ..
يقول الحقّ جلّ جلاله في سورة الأنعام :
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] {الأنعام:112}
وروى  الترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قال  ـ : إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ.
في السبعينيات من القرن الماضي انتشر في فلسطين وخاصة في منطقة رام الله الفكر اليساري ، ونشط طلاب الجامعات في التنظير لأفكاره ، ونشط اليساريون في ميدان العمل التطوعي ، وانتشرت هذه الظاهرة .
أذكر حادثة لا تغيب عن بالي كان لها أشد الأثر مع بساطتها في ضلالي فترة طويلة من الزمن ، فكنَّا نجمع القمامة من ساحة النادي ، ونحرق ما يمكن حرقه ، وحدث أن داعبني أحد الرفاق وقبض على يدي وراء ظهري مازحا ، فتقدم آخر وكفاه سوداوان من شحبار الحريق ، وقال مازحا :
ـ  من يمنعني من (شحبرة ) وجهك ؟
 خطرت على بالي فورا قصة الرسول r مع الرجل الكافر الذي سرق السيف المعلق على الشجرة والرسول نائم ، فقلت ببراءة الأطفال :
ـ  الله .
فما كان منه إلا أن شحبر وجهي بإحدى يديه . فكتمتها في نفسي ولم أسأل عنها ، وحاولت استنتاج ما أريد منها .
حادثة صغيرة كان لها أثر كبير على الشاب الصغير الذي يدرج نحو الثالثة عشرة من عمره ، فحفرت في قلبه حفرة شك باض فيها الشيطان وفرَّخ سنوات عدة . ومرت سنوات ، وكلما خطرت هذه القصة على بالي يغني شيطان الشك في قلبي.
 ذات مرّة وبعد التخرج من الجامعة والعمل في التعليم صحبنا الطلاب برحلة مدرسية إلى دير قرنطل في أريحا ، وصعدنا الجبل إلى دير الرهبان في أعلاه ، هناك سأل طالب بعمر القصة الراهب : لماذا سمي هذا الجبل بجبل قرنطل ؟
 فقال الراهب : قرنطل كلمة يونانية تعني الأربعين ، وعلى هذا الجبل جرّب الشيطان المسيح ( عليه السلام ) أربعين يوما  فكان يقول له انظر إلى مملكة أريحا الثرية الناس فيها يأكلون أطيب الطعام ، ويشربون ألذ الشراب ، ويعيشون برخاء ، وأنت هنا صائم غذاؤك الحشائش ، لو كنت كريما عند الله ما أجاعك وأشبع الناس . ولكن المسيح عليه السلام رفض الإغراء وحافظ على صيامه .
وحدثت عن سبب التسمية لأحد الأخوة من أهل العلم ، فقال الأمر ليس كذلك ، هناك جرّب الشيطان المسيح عليه السلام بقصة أخرى رويت في غير مكان ، ومنها كتاب " أدب الدنيا والدين " :
 فقد ورد أن إبليس اللعين قال لعيسى عليه السلام :
ـ  ألست تقول أنه لا يصيبك إلا ما كتب الله لك ؟
قال : بلى  .
 قال : فارمِ نفسك من ذروة هذا الجبل ، فإنه إن يقدر لك السلامة تسلم .
 فقال عليه السلام : يا ملعون ، إن لله أن يختبر عباده ، وليس للعبد أن يختبر ربه . فكان كلامه ماء طمأنينة بارد يصب على شحبار شك وفد إلى قلبي من نار سبق وأشعلت .

رب كلمة قلبت رجلا ...

لا تبخل بكلمة الحق

قوله تعالى:
[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ  ] { إبراهيم }

وصدق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول :
(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
اليوم نقول : وماذا ينفع الكلام . آه لو يجدي الكلام !!
وقديما قالوا : ربّ كلمة قلبت همّة ، وربّ همّة أحيت أمّة .
وكان معاوية يقول : ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله r : " إن ولّيت فأحسن " . 
الكلمة الحق كالبذرة ، حيثما رميتها نفعت ولو بعد حين ، فإن تناولها طير عابر فهي لك صدقة ، وإن جرَّها نملٌ غابر فهي له غذاء ، وإن دفنت في أرض القلوب الطيبة أخرجت شجرة طيبة .
فقل كلمة الحق في كل حال ، وتلطّف في وضعها بين أيدي  الناس ، ولا تقذفها في وجوههم .
بشر الحافي من كبار الزهاد وأئمة الصلاح ، كان في أول حياته صاحب لهو وشرب ، يجمع رفقاء السوء في بيته فيسهرون ويشربون ، وذات يوم مرّ رجل صالحٌ بداره ، فسمع أصوات المعازف واللهو في الدار ، فدقَّ الباب ، فخرجت إليه جارية ، فقال : صاحب هذه الدار حرّ أم عبد ؟ فقالت : بل حرّ  ، فقال : صدقت لو كان عبدا لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب . ومضى في سبيله . فلما عادت الجارية سألها بشر عن الطارق فأخبرته ما كان منه ، فلحق بشر بالرجل حافيا حتى أدركه ، فقال له : أنت الذي وقفت بالباب ، وخاطبت الجارية ، فقال : نعم ، فقال بشر أعد عليّ الكلام ، فأعاده عليه ، فمرَّغ بشر خديه بالتراب ، وقال : بل عبد . ثم هام على وجهه حافيا حاسرا حتى عُرف بالحافي ، وقيل له ذات يوم : لم لا تلبس نعلا ؟ قال : لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ . فلا زال على هذه الحالة حتى مات .
وجاء في كتاب ( التبصرة لابن الجوزي  ) :
تعلّق رجل بامرأة ومعه سكين ، لا يدنو منه أحد إلا عقره ، وكان شديد البدَن ، فبينما الناس كذلك و المرأة تصيح ، مرّ بشر بن الحارث ، فدنا منه وحكّ كتفه بكتف الرجل ، فوقع الرجل إلى الأرض ، ومرّت المرأة  ومرّ بشر ، فدنوا من الرجل ، وهو يرشح عرقاً ، فسألوه : ما حالك ؟ قال : لا أدري ، ولكن حاكني شيخ وقال : إن الله ـ عزّ وجلّ ـ ناظرٌ إليك وإلى ما تعمل ، فضعفت لقوله وهبته هيبة شديدة لا أدري من ذلك الرجل . فقالوا له : ذلك بشر بن الحارث ، فقال : واسوأتاه كيف ينظر إليّ بعد اليوم ؟ وحمّ من يومه .. 
ورُوي أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مرّ  ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة ، فإذا فتيان فسّاق قد اجتمعوا يشربون ، وفيهم مغنٍ يقال له زاذان ، يضرب ويغني ، وكان له صوت حسن . فلما سمع ذلك قال ابن مسعود : ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله ، ومضى ، فسمع زاذان قوله فقال : من كان هذا ؟ قالوا : إنه عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله r ، فقام وضرب بالعود على الأرض فكسره . 
الفضيل بن عياض ، شيخ الحرم المكي ، ومن أكابر الصالحين والعباد ، ولد في سمرقند عام  105 هـ وتوفي في مكة عام 187هـ ، كان قاطع طريق قبل أن يتوب ، وكان يعشق جارية ، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تاليا يتلو : ] أَلَمْ يَأْنِِ لِلَذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذكْرِ اللهِ [ فلما سمعها قال : بلى يا رب ، قد آن ، فرجع فأوى إلى خربة ، فسمع بعض الناس يخوفون بعضهم بالفضيل ، فقال : والله إني تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام .

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

إحصائية الحمد ...

إحصـــائية  الحمـــــد
لكي تعرف عظيم نعم الله عليك ، حيٌّ بك أن تنظر لها من السماء ، لتحس بلذة الحمد لله عندما تقولها ، يقول الله تعالى في كتابه :  
]وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[
]فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ` يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ[
]أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ` وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ[
ويروى عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أنه قال: - قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ، التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ)5. وقال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: "تذكروا النعم فإن ذكرها شكر"
من المعلوم أن مساحة النظر تكبر كلما ارتفعنا للأعلى ، لذا يجعل الجيش نقاط المراقبة في منطقة مرتفعة ، والقمر الصناعي في الفضاء الشاهق يرصد أضعاف ما يرصده المنطاد القريب من سطح الأرض ، وهكذا تشعر وأنت تقرأ القرآن الكريم، فالقرآن كلام العلي العظيم ، لذا يأخذك إلى ملكوت السماوات والأرض ، ويسافر بك عبر مسيرة الإنسان والخلق ، ليعود ويقول لك افعل هذا واجتنب هذا في أدق تفاصيل حياتك اليومية .

والآن عليك أن تقول الحمد لله مرة أخرى  :
·       إذا وُلدت لأبوين مسلمين فأنت من22.7% المحظوظين الذين ولدوا على فطرة الإسلام العظيم .
·    إذا كنت ممن يقرأ اللغة العربية فأنت من 2.5%  من سكان العالم المحظوظين الذين يتيسر لهم التعبد  بقراءة القرآن الكريم .
·       إذا كان معدل دخلك يزيد عن دولارين يوميا فأنت أغنى من ثلاثة مليارات من سكان الكرة الأرضية .
·       إذا كان بإمكانك الوصول إلى مكان العبادة ، فأنت أوفر حظا من 3 مليارات إنسان في هذا العالم .
·       إذا كان لديك قوت في الثلاجة ورداء في الخزانة وبيت يأويك فأنت أغنى من 75% من سكان العالم .
·       إذا كان لديك مال في البيت أو في المصرف فأنت من فئة 8% من الأشخاص الميسورين في العالم . 
·    مليار ونصف من سكان العالم يعانون من اضطراب ذهني قد يظهر على شكل اكتئاب أو انفصام شخصية أو تخلف عقلي أو إدمان على المخدرات والكحول ، إذا لم تكن منهم فأنت محظوظ .
·    إذا مدّ الله بعمرك حتى تسمع هذه الإحصائية فأنت من المحظوظين لأنه يموت في كل دقيقة سبعون شخصا في العالم ولم تكن منهم .

لطيفة في تعليل اقتران الحمد بالتسبيح :
ورد في القرآن الكريم اقتران التسبيح بالحمد في آيات كثيرة : ] سَبِّحْ بِحْمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ [ ، وفي الحديث كذلك ، قال r : " إنَّ أحبَّ الكلام إلى الله : سبحان الله وبحمده " . يقول ابن تيمية رحمه الله في تعليل ذلك : التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات ، نفي المعايب وإثبات المحامد وذلك تمام التعظيم .أي  أن التسبيح صفة سلب ، لأنك بالتسبيح تنزه الله من كلّ نقص ، والتحميد صفة إيجاب لأنك ترجع كلّ الفضل لله تعالى ، فاقترن السلب بالإيجاب اقتران الليل بالنهار  . 

سر الصداقة الإلهي ..

واتخـذ الله إبراهيـم خليـلا ..

يقول الله تعالى :
[وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۞وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ] [ النساء : ـ 125  }
وروى جابر بن عبد الله عن رسول r قال: «اتخذ الله إبراهيم خليلاً لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناسُ نيام»
. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل لِم ٱتخذ الله إبراهيم خليلاً» ؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد.
 إبراهيم عليه السلام خليل الله ، كيف فسر المفسرون ذلك ؟
 قالوا معنى الخليل ؛ الذي ليس في محبته خلل ؛ فجائز أن يكون سُمي خليلاً لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة.
 وقيل : والاختلال الفقر وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيراً إلى الله تعالىٰ ؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلاَّ إلى الله تعالىٰ مخلصاً في ذلك.
وقيل : سُمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر لِيمتار ( يشتري ) من عنده طعاماً فلم يجد صاحبه، فملأ غرائره رملاً وراح به إلى أهله فحطّه ونام؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقاً فصنعوا له منه، فلما قدّموه إليه قال: من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الذي جئت به من عند خليلك المصريّ؛ فقال: هو من عند خليلي؛ يعني الله تعالىٰ، فسمِّيَ خليل الله بذلك.
 وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار، وأهدى لهم هدايا ، وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي أن تسجدوا لله سجدة ؛ فسجدوا فدعا الله تعالىٰ وقال: اللَّهُمَّ إني قد فعلت ما أمكنني ، فافعل اللَّهُمَّ ما أنت أهل لذلك؛ فوفقهم الله تعالىٰ للإسلام فاتخذه الله خليلاً لذلك.
 ويُقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميِّين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا: إنا لا نأكل شيئاً بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه ؟ قال: أن تقولوا في أوّله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على الله أن يتخذه خليلاً؛ فاتخذه الله خليلاً.
وقيل: معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله. والخُلّة بين الآدميِّين الصداقة؛ مشتقة من تخلل الأسرار بين المتخالّين.
فإن قال قائل: وما معنى الخُلة التي أُعطيها إبراهيم؟ قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام العداوة في الله والبغض فيه، والولاية في الله والحبّ فيه، على ما يُعرف من معاني الخلة. وأما من الله لإبراهيم، فنصرته على من حاوله بسوء، كالذي فعل به إذا أراده نمرود بما أراده به من الإحراق بالنار، فأنقذه منها، وأعلى حجته عليه إذ حاجه، وكما فعل ملك مصر إذ أراده عن أهله، وتمكينه مما أحبّ، وتصييره إماما لمن بعده من عباده ،  وقدوة لمن خلفه في طاعته وعبادته، فذلك معنى مخالّته إياه.
 وجاء في كتاب (صور من حياة التابعين :212)  الخبر التالي : 
قال أبو عاصم ابن قتادة الليثي: كان إبراهيم عيه السلام يضّيف الناس ، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه فلم يجد أحدا ، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما ، فقال له : يا عبدالله ، من أدخلك داري بغير إذني . فقال الرجل : دخلتها بإذن ربها . قال : إبراهيم عليه السلام : ومن أنت ؟ قال الرجل : أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى أحد عباده أبشره بأن الله قد اتخذه خليلا .
قال إبراهيم عليه السلام : ومن هو ؟ فوالله لو أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لأتيته ثم لا أبرح له خادما حتى يفرق الموت بيننا . قال ملك الموت : ذلك العبد أنت . قال إبراهيم عليه السلام : أنا ؟ قال ملك الموت : نعم أنت . فتسائل إبراهيم عليه السلام : فيم اتخذني ربي خليلا ؟ قال ملك الموت : إنك تعطى الناس ولا تسألهم .

الاثنين، 28 نوفمبر 2011

أبكي على حالي

أبــكـي لنفســي ...

قال تعالى :
[ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ . فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ] { الطور : 25 28 }
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ،  أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقٌّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ؛ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا،  وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ " .
 ويسأل الناس عن سرّ عظمة عمر بن الخطاب ، فيُجاب عن السؤال بأنها كلمة للرسول r  قالها يوما لعمر ، سمعها فوعاها فنقشها على خاتمه :" كفى بالموت واعظا يا عمر " ، فحسنت سيرته في الدنيا وأحسن الله خاتمته بإذنه .
 يا لها من ساعة ، يا له من موقف عظيم ، تلك الساعة التي نفر منها ، وهي آتية لا ريب فيها ، ساعة يجلس فيها ملك الموت أمام عين الإنسان ، فتحشرج الروح في الجسد ، وتختلط الكلمات في الفم ، وتدور الأعين من هول ما ترى ! وقد أدرك الإنسان أنه الفراق ، وأنه الرحيل عن المال والولد والأحباب !
رأيت بعض الناس في الاحتضار وكانوا في الدنيا من أبخل الناس يقول : خذوا كل مالي ، وأعيدوا لي شبابي .  ولات حين مناص .
ورأيت من الناس من يقول : تصدقوا بكل مالي ووزعوه في سبيل الله .
وسمعت عن أحدهم يصرخ بأولاده : اشتروني ، ولا تتركوني .
وسمعت أحدهم يقول : احرقوني ولا تدفنوني .
وسمعت أحد الناس يقول ساعتها : لقد تأخرت كثيرا متى ألقى ربي !
ساعتها يكشف الغطاء ، ويصير البصر حديدا ، فينظر الإنسان بعينه ، فلا يرى إلا دموعا يسحها باكيا على نفسه .
جاء في (كتاب المحتضرين ) : لما حضر الحسن بن علي الموت ، قال : أخرجوا فراشي إلى صحن الدار حتى أنظر في ملكوت السماوات . فأخرجوا فراشه ، فرفع رأسه ، فنظر فقال : اللهم إني أحتسب نفسي عندك ، فإنها أعزّ الأنفس عليّ .
هو يقدم نفسه بين يديه ، ليجدها ، كمن يقدم ماله ليجده ، ولكنه لم يجد أغلى من نفسه ، فطوبى لها من صدقة بين يدي الله تعالى .
و جاء في ( مواعظ المجالس ) أنه كان بالبصرة عابد قد أجهده الخوف والحزن ، وأسقمه البكاء وأنحله خوفا من الموت ، فلما جاءته الوفاة جلس أهله يبكون حوله ، فقال لهم : أجلسوني . فأقبل عليهم ، وقال لابنه : يا بني ما الذي أبكاك ؟ قال : يا أبتِ ، ذكرت فقدك وانفرادي بعدك . فالتفت إلى أمه ، وقال : يا أماه ، ما الذي أبكاك ؟ قالت : لتجرعي مرارة ثكلك . فالتفت إلى الزوجة وقال : ما الذي أبكاك ؟ قالت : لفقد برّك وحاجتي لغيرك . فالتفت إلى أولاده وقال : ما الذي أبكاكم ؟ قالوا لذلّ اليتم والهوان بعدك ؟
فعند ذلك نظر إليهم وبكى ، فقالوا له : وما يبكيك أنت ؟
قال : أبكي لأني رأيت كلاً منكم يبكي لنفسه لا لي ، أما فيكم من بكى لطول سفري ؟! أما فيكم من بكى لقلة زادي ؟! أما فيكم من بكى لمضجعي في التراب ؟! أما فيكم من بكى لما ألقاه من الحساب ؟!  أما فيكم من بكى لوقوفي بين يدي رب الأرباب ؟! ثمّ سقط على وجهه فحركوه فإذا هو ميت .
قال ابن الرومي :
رأيت الدهر يجرح ثمّ يأسو
أبت نفسي الهلوع لفقد شيء
وقال آخر :
ويبكي على الموتى ويترك نفسه
ولو كان ذا عقل ورأي وفطنة

يعوض أو يسلي أو ينسي
كفى حزنا لنفسي فقد نفسي

ويزعم أن قد قلّ عنها عزاؤه
لكان عليه لا عليهم بكاؤه

الفيلسوف والسنور ..

الفيلسوف والسنَّور

يقول الله تعالى في سورة الجاثية  :
 ] وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ `وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ` قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[ { الجاثية }
وعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ ، قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ : " أَمَرَرْتَ بِأَرْضٍ مِنْ أَرْضِكَ مُجْدِبَةٍ ، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهَا مُخْصِبَةً ؟ " قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : " كَذَلِكَ النُّشُورُ " . قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : " أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ تُحْرَقَ بِالنَّارِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ ، وَأَنْ تُحِبَّ غَيْرَ ذِي نَسَبٍ لَا تُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ ، كَمَا دَخَلَ حُبُّ الْمَاءِ قَلْبَ الظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ " . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ لِي بِأَنْ أَعْلَمَ أَنِّي مُؤْمِنٌ؟ قَالَ : " مَا مِنْ أُمَّتِي ، أَوْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَبْدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا حَسَنَةٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَازِيهِ بِهَا خَيْرًا ، وَلَا يَعْمَلُ سَيِّئَةً ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ إِلَّا هُوَ - إِلَّا وَهُوَ مِؤْمِنٌ " . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ .
 هناك مثل صيني يقول :
العقول الصغيرة تناقش الأشخاص ، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء ، والعقول الكبيرة تناقش المبادئ .
اسمع إلى حديث الأطفال الصغار تجدهم يقولون : أبي أقوى من أبيك ، وأمي أحسن من أمك ، وإذا ما كبروا قليلا صاروا يقولون : دراجتي أقوى من دراجتك ، ولعبتي أحسن من لعبتك . وإذا ما نضجت العقول انصرفت إلى المبادئ والأفكار .
أرقى الناس عقلا هم المفكرون والفلاسفة ، لذا تجدهم مشغولين بالبحث في الأسئلة الكبرى عن الوجود ،  وعندما سئل أحد الحكماء عن معنى الفلسفة قال : هي نقاش قضية الموت والحياة .
الموت مشكلة البشرية الأولى ، ومشكلة الإنسان الكبرى ، فمنذ بداية التاريخ والمفكرون يناقشون قضية الموت والحياة ، وكما هي قضية عامة هي أيضا قضية خاصة ، والعبي هو الذي يعيش حياته دون أن يجد حلا يقنع به لهذه المسألة .
من الغريب أن رجلا كان يسميه مريدوه " فيلسوف فلسطين "  ، ومات بالسرطان قبل سنتين ، كان يتبنى مقولة عن الموت مفادها : " نحن لا نخاف الموت ، لأننا حيث نكون لا يكون ، وحيث يكون لا نكون " . وبعد البحث وجدت أن هذه المقولة لفيلسوف يوناني يدعى أبيقور ( 341 ـ 270 ق.م ) ، وخلاصة الفكرة أنه يدعو لعدم التفكير في الموت ، فحل المسألة بأن ألغاها ، وقلت لأحد مريدي الفيلسوف الفلسطيني يوما : أحقا ، كان معلمكم لا يؤمن بأي شكل من الحياة بعد الموت ؟ فقال : لا ، بل كان يؤمن بتناسخ الأرواح . فقلت : سبحان الله ، لماذا في قضية الموت علينا أن نعود لما قبل الميلاد ، ولشعوب وثنية ، بينما دعواتكم كلها عن الحداثة وما بعد الحداثة !!
وتعود فكرة التناسخ إلى زمن فرعون موسى ، ثم تكرَّست عند الهنود ، باعثها محاولة تفسير سبب آلام الأطفال والبهائم ولا ذنب لهم ، فقالوا إنها لذنوب سلفت ، وملخصها أن أرواح أهل الخير تدخل في أبدان خيرة فتستريح ، أما أرواح أرباب الشر إذا خرجت تدخل في أبدان شريرة وتتعذب ، ثم تواصل الانتقال والعذاب وتعود إلى صورة إنسان بعد ألف سنة ، فإن أحسن لحق بالمحسنين ، وإن أساء أعاد ألف سنة  أخرى من العذاب .
جاء في كتاب "  تلبيس إبلبيس " القصة التالية على لسان  أبي بكر بن الفلاس:
دخلت على رجل يقول بالتناسخ من أهل بغداد ، فوجدت بين يديه سنورا أسود ( قطة كبيرة ) وهو يمسحها ، ويحك بين عينيها ، ورأيتها وعينها تدمع كما جرت عادة السنانير بذلك ، وهو يبكي بكاء شديدا ، فقلت له : لمَ تبكِ ؟ قال : ويحك ، أما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها ، هذه أمي لا شك ، وإنما تبكي من رؤيتها إليّ حسرة .
وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم منه ، وجعلت السنور تصيح قليلا قليلا . فقلت له : فهي تفهم عنك ما تخاطبها به ! فقال : نعم . فقلت : أتفهم أنت صياحها ؟ قال : لا . قلت : فأنت المنسوخ وهي الإنسان .

العاشر من رمضان ..

العاشـر من رمضــان
جاء في سورة فاطر :  
[مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ]} فاطر }
وعند الحاكم عن عمر بن الخطاب :
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله
هناك حروب مُذلّة وحروب مشرفة بغض النظر عن نتيجتها .
من الحروب المُذِّلة في تاريخنا المعاصر حرب حزيران 1967 ، حيث استطاع جيش العدو أن يحسم المعركة بست ساعات ، ويحول جيوش ست دول عربية إلى حمر مستنفرة فرت من قسورة . تلك حرب كان شعارها : برا ـ بحرا ـ جوا ، وكانت الإذاعات العربية تشجع جنودها في ساحة القتال ببث رسائل لرفع معنويات الجنود منها : الفنانة الفلانية معكم ، والمطرب الفلاني يدعو لكم ، والراقصة الفلانية تشد أزركم ، وانتهت الحرب وقد ضاع البر والبحر والجو .
حرب العاشر من رمضان 1400هـ أو السادس من تشرين ( أكتوبر ) 1973 كانت حربا مشرِّفة نوعاً ما ، ردَّت للجيوش العربية بعض كرامتها ، والجنود هم نفس الجنود ، فما الذي جرى ؟؟
 جاء في " منارات وليد الهودلي " القصة التالية :
قًبيل إعلان حرب العاشر من رمضان ، وبعد أن أحكمت الخطط العسكرية ، ووقف الجنود في الجبهات ينتظرون ساعة الصفر ، يومئذ كان الفريق سعد الدين الشاذلي يتفقد قادة الوحدات العسكرية ليطمئن على أدق التفاصيل ، دخل الشاذلي على الضابط " أحمد فوزي " المسؤول عن التوجيه المعنوي ، فوجده مستغرقا في إعداد خطبة نارية تلهب حماس الجند في المعركة ، وبدت على الضابط علامات الاضطراب والإرهاق ، فقد خانته قدراته الخطابية المشهودة ، فكان يكتب ويمزق ، يكتب ويمزق ، فقال له الفريق الشاذلي : أراك منهمكا ، ما أخبار معنويات الجنود ؟
أجاب الضابط :  المعنويات مرتفعة .
سأل الشاذلي :  فعلام أراك مرتبكا إذا ؟
رد الضابط :  منذ ساعات وأنا أحاول إعداد خطبة تلهب حماس الجنود ، وتبث فيه روح القتال والشجاعة ، ولكني كما ترى أكتب وأمزق ، لا أجد الكلمات المناسبة لمثل هذه المعركة .
فقال الفريق الشاذلي بصوت الواثق وبلهجة المحب : هل أدلك على خطبة من كلمة واحدة ، مختصرة وقوية ، محبوبة للجند ، يرددها اللسان بيسر ، وتصل إلى القلب وتفعل أعظم الأفعال ؟
فقال الضابط : أسعفني بها ، وأرحني من هذا العناء .
قال الشاذلي : قلت لك إنها كلمة واحدة ، إنها " الله أكبر " ، فهي نداء الانتصارات المجيدة ، وهتاف النصر المؤزر ، تملأ القلوب بعظمة الله ، فتطرد الخوف من النفوس ، وتجعل الجنود أسودا لا يخافون الموت .
قال الضابط فوزي وقد وجد ضالته : صدقت ، لا أدري كيف غابت عن بالي ، وقد ملئت السلة بالأوراق .
واتخذت الإجراءات اللازمة ، فتمَّ تركيب مُكبرات صوت على طول الجبهة بمعدل واحد في كل كيلومتر ، وأبلغت الإذاعة لكي تبث هذه الخطبة باستمرار ، وانطلقت ساعة الصفر مع صيحات " الله أكبر " في كل مكان ، فتقدم الجنود على وقعها أسودا يحطمون جدار بارليف ويعبرون القناة ، ويعيدون للأمة بعض كرامتها .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته :
كان من ثمرات محنة 67 : أنها أيقظت في الناس المعنى الديني ، والرجعة إلى الله ، وبدأت حركة إيمانية قوية في القوات المسلحة ، فكان الحرص على إقامة الصلاة ، وقام وعاظ الأزهر بدورهم في التنبيه والإحياء ، فلا غرو أن كان شعار الحرب " الله أكبر ".