الاثنين، 25 فبراير 2013

عنــدما تفكـــر المعـــدة

عنــدما تفكـــر المعـــدة
يضحك الكنيف

قالوا  : قل لي ،  ماذا تقرأ ؟ لأقول لك : من أنت .
وقالوا  :  قل لي ، من تصاحب ؟  لأقول لك : من أنت .
وقالوا : قل لي ، ماذا ترى في الأحلام ؟ أقل لك من أنت .  
وليتهم قالوا : قل لي ، ماذا تأكل وكيف تأكل ؟ لأقل لك :  من أنت .
جلست يوما عند صديق في متجره قبيل الظهر بساعة ، فضَّيفني قهوة في إناء غريب الشكل، وجعل يشرح لي أن هذه القهوة فريدة من نوعها ، وأنه أحضر إبريق تحضيرها من أمريكا ، وأسهب يشرح كيفية إعدادها بالتقطير ، ثم رفع سماعة الهاتف إذ اتصلت به زوجته تسأله ماذا يريد أن يأكل اليوم ، فبدأ يعدّد أصناف الأكل ، ويقول هذا على بالي ، وهذا ليس على بالي ، وجل اهتمامه منصرف لما يقول ، وطال الحديث وأنا جالس أستمع ، وأنتظر علّ الله يهدي صاحبي لأكلة يأكلها ، وبعد طول تردد ومحاورة ، قرّ قراره واستقر رأيه على أن يأكل منسفا ، وبدأ يشرح لها كيف يريد المنسف ، لحم خاروف صغير ، ويحمر اللحم ، ويبهر بكذا وكذا ، والرز من نوع كذا ، وبدأ يسرد أدق التفاصيل المملة ، ,ومرت نصف ساعة والرجل يشرح ويفصل ، وخرجت لآذان الظهر والرجل يشرح ويفصل .
مشيت وفي نيتي البحث عن علاقة الطعام بشخصية الإنسان ، فوجدت الآتي :  
الرسول r  سأل أهله الإدام يوما : فقالوا ما عندنا إلا خل ، فجعل يأكل ويقول : نعم الإدام الخل ، نعم الإدام الخل . ودعاه رجل ميسور الحال فقدم له الخل ، فصار يقول : بئس الإدام الخل ، بئس الإدام الخل . وذكر أن الرسول r ما عاب طعاما قط كان إذا اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه .  
عن يونس بن عبيد قال : كان عيسى عليه السلام يقول :" لا تصيبُ حقيقةَ الإيمان حتى لا تُبالي من أكلِ الدنيا " .
عتبة بن أبان بن صمعة المعروف بـ "عتبة الغلام " من التابعين ، وسمي بالغلام لأنه في العبادة كان غلام رهان ، كان من الزهاد المجاهدين أستشهد في موقع المصيصة في حرب مع الروم في ، كان عتبة يأخذ الدقيق فيبله بالماء ويعجنه ، ويضعه في الشمس حتى يجف ، فإذا كان الليل أخذه وأكل منه لُقمًا ، فقالت له مولاته : يا عتبة ، لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك ، وبردت لك الماء . فقال لها : يا أم فلان ، لقد سددت عني كلب الجوع . وكان عتبة يأكل خبزا وملحا ويقول : العرس في الدار الآخرة .
 كان الخليفة الأموي معاوية إذا أراد أن يولي واليا دعاه إلى وليمة  ، ووضع بين يديه دجاجة ،  وجعل ينظر إليه كيف يأكل ، فإذا رآه عفيف النفس قنوعا ولاه ، وإذا رآه شرها لقّامـًا لم يوله ، فقد كان يعرف الرجال من صغائر الأعمال .
وعن ذي النون المصري : بداية السخاء أن تسخو نفسك بما في يديك ، ونهايته أن تسمو نفسك عمّا في أيدي الناس ، وأن لا تبالي من أكل الدنيا .
ومن الشعر :
ولقد سألت الدار عن أخبارهم
حتى مررت على الكنيف فقال لي


فتبسمت عجبا ولم تُبدِّ
أموالهم ونوالهم عندي

الأحد، 24 فبراير 2013

لا تبخل بكلمة الحق

لا تبخل بكلمة الحق

اليوم نقول : وماذا ينفع الكلام . آه لو يجدي الكلام !!
وقديما قالوا : ربّ كلمة قلبت همّة ، وربّ همّة أحيت أمّة .
وكان معاوية يقول : ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله r : " إن ولّيت فأحسن " . 
الكلمة الحق كالبذرة ، حيثما رميتها نفعت ولو بعد حين ، فإن تناولها طير عابر فهي لك صدقة ، وإن جرَّها نملٌ غابر فهي له غذاء ، وإن دفنت في أرض القلوب الطيبة أخرجت شجرة طيبة .
فقل كلمة الحق في كل حال ، وتلطّف في وضعها بين أيدي  الناس ، ولا تقذفها في وجوههم .
بشر الحافي من كبار الزهاد وأئمة الصلاح ، كان في أول حياته صاحب لهو وشرب ، يجمع رفقاء السوء في بيته فيسهرون ويشربون ، وذات يوم مرّ رجل صالحٌ بداره ، فسمع أصوات المعازف واللهو في الدار ، فدقَّ الباب ، فخرجت إليه جارية ، فقال : صاحب هذه الدار حرّ أم عبد ؟ فقالت : بل حرّ  ، فقال : صدقت لو كان عبدا لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب . ومضى في سبيله . فلما عادت الجارية سألها بشر عن الطارق فأخبرته ما كان منه ، فلحق بشر بالرجل حافيا حتى أدركه ، فقال له : أنت الذي وقفت بالباب ، وخاطبت الجارية ، فقال : نعم ، فقال بشر أعد عليّ الكلام ، فأعاده عليه ، فمرَّغ بشر خديه بالتراب ، وقال : بل عبد . ثم هام على وجهه حافيا حاسرا حتى عُرف بالحافي ، وقيل له ذات يوم : لم لا تلبس نعلا ؟ قال : لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ . فلا زال على هذه الحالة حتى مات .
وجاء في كتاب ( التبصرة لابن الجوزي  ) :
تعلّق رجل بامرأة ومعه سكين ، لا يدنو منه أحد إلا عقره ، وكان شديد البدَن ، فبينما الناس كذلك و المرأة تصيح ، مرّ بشر بن الحارث ، فدنا منه وحكّ كتفه بكتف الرجل ، فوقع الرجل إلى الأرض ، ومرّت المرأة  ومرّ بشر ، فدنوا من الرجل ، وهو يرشح عرقاً ، فسألوه : ما حالك ؟ قال : لا أدري ، ولكن حاكني شيخ وقال : إن الله ـ عزّ وجلّ ـ ناظرٌ إليك وإلى ما تعمل ، فضعفت لقوله وهبته هيبة شديدة لا أدري من ذلك الرجل . فقالوا له : ذلك بشر بن الحارث ، فقال : واسوأتاه كيف ينظر إليّ بعد اليوم ؟ وحمّ من يومه .. 
ورُوي أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مرّ  ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة ، فإذا فتيان فسّاق قد اجتمعوا يشربون ، وفيهم مغنٍ يقال له زاذان ، يضرب ويغني ، وكان له صوت حسن . فلما سمع ذلك قال ابن مسعود : ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله ، ومضى ، فسمع زاذان قوله فقال : من كان هذا ؟ قالوا : إنه عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله r ، فقام وضرب بالعود على الأرض فكسره .  
الفضيل بن عياض ، شيخ الحرم المكي ، ومن أكابر الصالحين والعباد ، ولد في سمرقند عام  105 هـ وتوفي في مكة عام 187هـ ، كان قاطع طريق قبل أن يتوب ، وكان يعشق جارية ، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تاليا يتلو : ] أَلَمْ يَأْنِِ لِلَذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذكْرِ اللهِ [ فلما سمعها قال : بلى يا رب ، قد آن ، فرجع فأوى إلى خربة ، فسمع بعض الناس يخوفون بعضهم بالفضيل ، فقال : والله إني تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام .

في ظلال معركة بدر

في ظلال معركة بدر
درس في الـــــــولاء

الأفكار تتغير مع عقارب الثواني ، والعواطف تتغير  مع عقارب الدقائق ،والعادات تتغير مع عقارب الساعات .
 الأفكار تتغير بسرعة لأنهها مرتبطة بالمعرفة والجهل ، وأداة المعرفة العقل الذي يربط بين الأسباب والمسببات ، وسيطرة الإنسان عليه قوية ، أما العواطف فتتغير ببطء ، لأن أداتها القلب الذي يتشرب المواقف ببطء ، وهو الذي يفرض سيطرته على الإنسان ، أما العادات فأداتها موقف المجتمع ، ذلك الموقف الذي تقل فيه سيطرة الفرد إلى حدها الأدنى ، فتغيير النفوس أصعب من تغيير العقول وكلاهما مقدمة لتغيير المجتمع .  لذا كانت معركة بدر يوم الفرقان ، يوم التفريق بين فكرتين ومجتمعين ، وأهم ما فيها من الفصل ، أنها كانت  فاصلة بين  الولاء للقبيلة والولاء للعقيدة .
 نستطيع أن نلخص الولاء بثلاث كلمات مجتمعات متكاملات ، إذا غابت واحدة منهن غاب الولاء ، وهن : المحبة والطاعة والنُصرة . فإذا قلت : أنا أحب الرسول وأطيع الرسول وأنصر الرسول فولاؤك للرسول . وإذا قلت أنا أحب الرسول وأطيع ـ مختارا ـ أبا جهل فإن ولاءك لأبي جهل ، وإذا قلت أنا أحب الرسول وأطيع الرسول ولكن في الحرب أقاتل في جيش أبي جهل فإن ولاءك لأبي جهل .
الولاء في الجاهلية كان للقبيلة ، وكانت رابطة عصبية الدم والقربى الرابطة الأقوى في المجتمع ، رابطة ما زالت من أقوى الروابط في المجتمعات العربية وبعد ألف وخمسمائة سنة ، وقد تبقى ، ولكن إذا تصادمت هذه الرابطة مع الأخوة الإسلامية ، فما سيكون الموقف ؟
يوم بدر كان يوم الفرقان ، فرَّق به بين الحق والباطل ، وبين رايتين ، وبين مجتمعين ، وبين مرحلتين .
كانت رابطة الدم من أقوى الروابط في الجاهلية ، والعصبية القبلية من محركات المجتمع الرئيسة ، لذا كان الجاهلي لا يعرف ولاء إلا لأسرته وعائلته وقبيلته  ، وجاء الإسلام ليدعو الناس إلى رابطة جديدة هي رابطة الأخوة في العقيدة ، وكانت معركة بدر اختبارا حقيقيا لهذا التغيير ، فهل نجح المسلمون في هذا الاختبار ؟
وقع بين يدي المسلمين سبعون أسيرا ، وشاور الرسول الكريم الصحابة في أمرهم ، فكان رأي عمر بن الخطاب أن تضرب أعناقهم ، واقترح أن يَضْرِبَ الأسير أحد أقرابائه  : " ولكن أرى أن تمكنني  من فلان (قريب لعمر) فأضرب عنقه ، وتمكن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " .
كان أبو عزيز من مشركي قريش وحامل لوائهم ، وكان أخوه مصعب بن عمير من مسلمي المدينة ، وحامل لواء المسلمين ، وحدث أن وقع أبو عزيز في الأسر ، ورآه أخوه مصعب فقال لمن أسره : شدّ يدك به فإن أمّه ذات مالٍ ومتاعٍ كثير ، فقال أبو عزيز : يا أخي،هذه وساطتك بأخيك ؟ قال مصعب : إنه أخي في الله ولا أخوة في كفر ، وقد دفعت أمه فداءه أربعة ألآف درهم ، وهو أعلى فداء في أسرى بدر .
وهذا الرسول يقاتل عمّه العباس ، وأبو بكر يقاتل أباه أبا قحافة ، وهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح الذي سمّاه الرسول r أمين الأمة ، والذي قال عنه عمر بن الخطاب : لو كنت متمنيا ما تمنيت إلا بيتا مملوءا برجال أمثال أبي عبيدة عامر بن الجراح . يقاتل في معركة بدر في صف المسلمين ، ويقاتل أبوه في صف المشركين ، فيقتل أباه ، فتنزل آية من السماء تثني على الموقف الجديد : ] لا َتِجدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُونَ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاَءَهُم .. [

الإ يــمــــان الحـــــــي

الإ يــمــــان الحـــــــي

سمّى القرآن الكريم الإيمان حياة والكفر موتا ، ووصف المؤمن بالحي والكافر بالميّت ، قال الحيّ القيوم في كتابه الكريم  :
]أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [
 وقال جلّ وعلا : ] يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [
وقال تعالى : ] تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [
وقال العلماء في تفسير هذه الآية أن الله يخرج المؤمن من الكافر ويخرج المنافق من المؤمن .
فما أهم سمات الكائن الحي ؟
نقول سمات لأن الحياة ما زالت سرّا يُعجِز العلماء ، لذا انصرفوا  للبحث عن مظاهرها  ، فبحثوا في خصائص الكائن الحي ، فأحصوها في ستة أمور  : قابلية النمو ، و القدرة على ترميم الأجزاء أو تبديلها ، والقدرة على التكيف مع المحيط ، والتأثر بالمنبهات ، والقدرة على التناسل .
وإذا عرض المسلم إيمانه على خصائص الحياة ، ستكون :
·   قابلية النمو : فهل ينمو إيمانك يوما بعد يوم وعاما بعد عام ؟ والرسول r يقول : " من كان أمسه خيرا من يومه فهو في نقص ، ومن تساوى يوماه فهو مغبون " .
ويقول إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد : لقد صحبته عشرين سنة ، صيفا وشتاء ، حرا وبردا ، ليلا ونهارا ، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه ما كان بالأمس .
·   القدرة على ترميم الأجزاء أو تبديلها : هل أنت قادر على تبديل السيئات حسنات من خلال الاستغفار والتوبة النصوح ، والتائب عن الذنب كمن لا ذنب له ؟‍‍! الرسول r وهو الذي غفر الله له تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول : " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة " . وانظر إلى عمق كلام ابن الجوزي في هذا المجال : من الصفوة أقوام تيقظوا وما ناموا ، وقد سلكوا وما وقفوا ، فهم في صعود وترقٍ ، كلما عبروا مقاما إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا .
·   القدرة على التكيف : هل تستطيع الحفاظ على إيمانك في الحل والترحال ، في الشدة والرخاء ، في اليسر والعسر ، أم أنت من الذين يعبدون الله على حرف ؟ ! وتدبر قول الله تعالى : ]ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[
·    القدرة على التأثر بالمنبهات : هل تغضب لله إذا انتهكت محارمه ، وهل يوجع قلبك إيذاء المسلمين ودين الله ، وهل تفرح بنصر المؤمنين ؟ !
·   القدرة على التناسل أو التكاثر : هل تسعى لأن يهدي الله على يديك رجلا ، أو يجدد الله بهمتك سُنَّة ، أو تخترع للمسلمين شيئا يكثرون به عددا وعدّة   ؟!
وكما يقاس بتلك السمات إيمان الفرد ، يقاس بتلك الخصائص حياة الجماعة الإسلامية ، والمؤسسة الإسلامية ، والأمة الإسلامية .

ضيق الدنيا وسعة الآخرة

ضيق الدنيا وسعة الآخرة

يقول ابن الجوزي رحمه الله : "خلقنا نتقلب في ستة أسفار إلى أن يستقر بالقوم المنزل :
السفر الأول : سفر السلالة من الطين .
السفر الثاني : سفر النطفة من الظهر إلى البطن .
السفر الثالث : سفر الجنين من البطن إلى الدنيا .
السفر الرابع : سفر الإنسان من الدنيا إلى القبر .
السفر الخامس : السفر من القبر إلى العرض .
السفر السادس : السفر من العرض إلى دار الإقامة ".
ومن يتتبع هذه الرحلة الإنسانية بعد يجد أنها تسير في خطين متوازيين :
الأول : هو السير من الضيِّق إلى الواسع في المكان .
الثاني : هو السير من القليل إلى الكثير في الزمان .
فبداية يكون بعض الإنسان خلية صغيرة في ظهر الأب أو ترائب الأم ] خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ` يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ  [ ، وهو المكان الأضيق ثم يجتمعان في المكان الضيق و هو رحم الأم المهيأ لخلقه  ]أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ` فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ` إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ` فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ [، ثم يخرج من الرحم طفلا إلى الدنيا الواسعة ، ثم يخرج من الدنيا الواسعة إلى الآخرة الأوسع.
 ويرافق هذه الرحلة سلسة من الاصطفاءات ، فهناك الكثير من الخلايا التي يختار منها الله خلايا أقل عدد لتكون حيوانات منوية في الأب وبويضات عند الأم ، ويختار من هذه حيوانا واحدا وبويضة واحدة ليتشكل منها الجنين ويموت الباقي ، ثم يولد الإنسان ، فيختار من الملايين أعدادا محددة لتكون حية بالإيمان ، والباقي تكون ميتة بالكفر ، ثم ينتقل الناس إلى الدار الآخرة ، فيفوز المؤمنون بالحياة الخالدة في الجنة ، ويلقى الكافرون في جهنم .
ويرافق هذه المراحل أزمان تسير من القليل إلى الكثير .فالسفر الأول من الطين إلى السلالة كان في لحظة كن فيكون ، وتخلّق الخلية التناسلية في الرجل و المرأة في ساعات أو أيام معدودة ، وتبقى فترة أيام في خصية الرجل أو رحم الأم ، وإذا ما تم التلقيح يتكون الطفل ويبقى شهورا في بطن الأم ، حتى إذا خرج بقي سنوات في هذه الدنيا ، ويعيش ما شاء الله له أن يعيش ، ثم ينتقل إلى الدار الآخرة ، وهناك الآزال والآباد ، والسنة بألف سنة مما نعد في هذه الدنيا .
فرحلة الإنسان يصاحبها ثلاثة أبعاد : المكان من الضيق إلى الواسع ، والزمان من القليل إلى الكثير ، والاصطفاء سمة ترافق مراحل سفر الإنسان .
الآن تدبًّر المواقف التالية اعتمادا على ما تقدم :
قول الرسول r :
" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "  .
" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " .
وانظر إلى عمق فهم ربعي بن عامر ، وهو  يجيب قيصر الروم عن سبب خروج المجاهدين وجيوش الفتح إلى بلاد الدنيا :
" ابتعثنا الله تعالى لنخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة " .

إحصـــائية الحمـــــد

إحصـــائية  الحمـــــد

من المعلوم أن مساحة النظر تكبر كلما ارتفعنا للأعلى ، لذا يجعل الجيش نقاط المراقبة في منطقة مرتفعة ، والقمر الصناعي في الفضاء الشاهق يرصد أضعاف ما يرصده المنطاد القريب من سطح الأرض ، وهكذا تشعر وأنت تقرأ القرآن الكريم، فالقرآن كلام العلي العظيم ، لذا يأخذك إلى ملكوت السماوات والأرض ، ويسافر بك عبر مسيرة الإنسان والخلق ، ليعود ويقول لك افعل هذا واجتنب هذا في أدق تفاصيل حياتك اليومية .
ولكي تعرف عظمة نعم الله عليك ، ما أحرى أن تنظر لها من السماء ، لتعرف معنى الحمد لله :
]وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[
]فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ` يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ[
]أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ` وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ[
والآن عليك أن تقول الحمد لله مرة أخرى  :
·       إذا وُلدت لأبوين مسلمين فأنت من22.7% المحظوظين الذين ولدوا على فطرة الإسلام العظيم .
·   إذا كنت ممن يقرأ اللغة العربية فأنت من 2.5%  من سكان العالم المحظوظين الذين يتيسر لهم التعبد  بقراءة القرآن الكريم .
·       إذا كان معدل دخلك يزيد عن دولارين يوميا فأنت أغنى من ثلاثة مليارات من سكان الكرة الأرضية .
·       إذا كان بإمكانك الوصول إلى مكان العبادة ، فأنت أوفر حظا من 3 مليارات إنسان في هذا العالم .
·       إذا كان لديك قوت في الثلاجة ورداء في الخزانة وبيت يأويك فأنت أغنى من 75% من سكان العالم .
·       إذا كان لديك مال في البيت أو في المصرف فأنت من فئة 8% من الأشخاص الميسورين في العالم .  
·   مليار ونصف من سكان العالم يعانون من اضطراب ذهني قد يظهر على شكل اكتئاب أو انفصام شخصية أو تخلف عقلي أو إدمان على المخدرات والكحول ، إذا لم تكن منهم فأنت محظوظ .
·   إذا مدّ الله بعمرك حتى تسمع هذه الإحصائية فأنت من المحظوظين لأنه يموت في كل دقيقة سبعون شخصا في العالم ولم تكن منهم .

لطيفة في تعليل اقتران الحمد بالتسبيح :
ورد في القرآن الكريم اقتران التسبيح بالحمد في آيات كثيرة : ] سَبِّحْ بِحْمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ [ ، وفي الحديث كذلك ، قال r : " إنَّ أحبَّ الكلام إلى الله : سبحان الله وبحمده " . يقول ابن تيمية رحمه الله في تعليل ذلك : التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات ، نفي المعايب وإثبات المحامد وذلك تمام التعظيم .أي  أن التسبيح صفة سلب ، لأنك بالتسبيح تنزه الله من كلّ نقص ، والتحميد صفة إيجاب لأنك ترجع كلّ الفضل لله تعالى ، فاقترن السلب بالإيجاب اقتران الليل بالنهار  .  

واتخـذ الله إبراهيـم خليـلا

واتخـذ الله إبراهيـم خليـلا

 إبراهيم عليه السلام خليل الله ، كيف فسر المفسرون ذلك ؟
 قالوا معنى الخليل ؛ الذي ليس في محبته خلل ؛ فجائز أن يكون سُمي خليلاً لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة.
 وقيل : والاختلال الفقر وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيراً إلى الله تعالىٰ ؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلاَّ إلى الله تعالىٰ مخلصاً في ذلك.
وقيل : سُمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر لِيمتار ( يشتري ) من عنده طعاماً فلم يجد صاحبه، فملأ غرائره رملاً وراح به إلى أهله فحطّه ونام؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقاً فصنعوا له منه، فلما قدّموه إليه قال: من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الذي جئت به من عند خليلك المصريّ؛ فقال: هو من عند خليلي؛ يعني الله تعالىٰ، فسمِّيَ خليل الله بذلك.
 وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار، وأهدى لهم هدايا ، وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي أن تسجدوا لله سجدة ؛ فسجدوا فدعا الله تعالىٰ وقال: اللَّهُمَّ إني قد فعلت ما أمكنني ، فافعل اللَّهُمَّ ما أنت أهل لذلك؛ فوفقهم الله تعالىٰ للإسلام فاتخذه الله خليلاً لذلك.
 ويُقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميِّين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا: إنا لا نأكل شيئاً بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه ؟ قال: أن تقولوا في أوّله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على الله أن يتخذه خليلاً؛ فاتخذه الله خليلاً. وروى جابر بن عبد الله عن رسول r قال: «اتخذ الله إبراهيم خليلاً لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناسُ نيام»
. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل لِم ٱتخذ الله إبراهيم خليلاً» ؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد.
وقيل: معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله. والخُلّة بين الآدميِّين الصداقة؛ مشتقة من تخلل الأسرار بين المتخالّين.
فإن قال قائل: وما معنى الخُلة التي أُعطيها إبراهيم؟ قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام العداوة في الله والبغض فيه، والولاية في الله والحبّ فيه، على ما يُعرف من معاني الخلة. وأما من الله لإبراهيم، فنصرته على من حاوله بسوء، كالذي فعل به إذا أراده نمرود بما أراده به من الإحراق بالنار، فأنقذه منها، وأعلى حجته عليه إذ حاجه، وكما فعل ملك مصر إذ أراده عن أهله، وتمكينه مما أحبّ، وتصييره إماما لمن بعده من عباده ،  وقدوة لمن خلفه في طاعته وعبادته، فذلك معنى مخالّته إياه.
 وجاء في كتاب (صور من حياة التابعين :212)  الخبر التالي :  
قال أبو عاصم ابن قتادة الليثي: كان إبراهيم عيه السلام يضّيف الناس ، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه فلم يجد أحدا ، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما ، فقال له : يا عبدالله ، من أدخلك داري بغير إذني . فقال الرجل : دخلتها بإذن ربها . قال : إبراهيم عليه السلام : ومن أنت ؟ قال الرجل : أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى أحد عباده أبشره بأن الله قد اتخذه خليلا .
قال إبراهيم عليه السلام : ومن هو ؟ فوالله لو أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لأتيته ثم لا أبرح له خادما حتى يفرق الموت بيننا . قال ملك الموت : ذلك العبد أنت . قال إبراهيم عليه السلام : أنا ؟ قال ملك الموت : نعم أنت . فتسائل إبراهيم عليه السلام : فيم اتخذني ربي خليلا ؟ قال ملك الموت : إنك تعطى الناس ولا تسألهم .

أبـــكــــي لنفســــــي

أبـــكــــي لنفســــــي
 
  ويسأل الناس عن سرّ عظمة عمر بن الخطاب ، فيُجاب عن السؤال بأنها كلمة للرسول r  قالها يوما لعمر ، سمعها فوعاها فنقشها على خاتمه :" كفى بالموت واعظا يا عمر " ، فحسنت سيرته في الدنيا وأحسن الله خاتمته بإذنه .
 يا لها من ساعة ، يا له من موقف عظيم ، تلك الساعة التي نفر منها ، وهي آتية لا ريب فيها ، ساعة يجلس فيها ملك الموت أمام عين الإنسان ، فتحشرج الروح في الجسد ، وتختلط الكلمات في الفم ، وتدور الأعين من هول ما ترى ! وقد أدرك الإنسان أنه الفراق ، وأنه الرحيل عن المال والولد والأحباب !
رأيت بعض الناس في الاحتضار وكانوا في الدنيا من أبخل الناس يقول : خذوا كل مالي ، وأعيدوا لي شبابي .  ولات حين مناص .
ورأيت من الناس من يقول : تصدقوا بكل مالي ووزعوه في سبيل الله .
وسمعت عن أحدهم يصرخ بأولاده : اشتروني ، ولا تتركوني .
وسمعت أحدهم يقول : احرقوني ولا تدفنوني .
وسمعت أحد الناس يقول ساعتها : لقد تأخرت كثيرا متى ألقى ربي !
ساعتها يكشف الغطاء ، ويصير البصر حديدا ، فينظر الإنسان بعينه ، فلا يرى إلا دموعا يسحها باكيا على نفسه .
جاء في (كتاب المحتضرين ) : لما حضر الحسن بن علي الموت ، قال : أخرجوا فراشي إلى صحن الدار حتى أنظر في ملكوت السماوات . فأخرجوا فراشه ، فرفع رأسه ، فنظر فقال : اللهم إني أحتسب نفسي عندك ، فإنها أعزّ الأنفس عليّ .
هو يقدم نفسه بين يديه ، ليجدها ، كمن يقدم ماله ليجده ، ولكنه لم يجد أغلى من نفسه ، فطوبى لها من صدقة بين يدي الله تعالى .
و جاء في ( مواعظ المجالس ) أنه كان بالبصرة عابد قد أجهده الخوف والحزن ، وأسقمه البكاء وأنحله خوفا من الموت ، فلما جاءته الوفاة جلس أهله يبكون حوله ، فقال لهم : أجلسوني . فأقبل عليهم ، وقال لابنه : يا بني ما الذي أبكاك ؟ قال : يا أبتِ ، ذكرت فقدك وانفرادي بعدك . فالتفت إلى أمه ، وقال : يا أماه ، ما الذي أبكاك ؟ قالت : لتجرعي مرارة ثكلك . فالتفت إلى الزوجة وقال : ما الذي أبكاك ؟ قالت : لفقد برّك وحاجتي لغيرك . فالتفت إلى أولاده وقال : ما الذي أبكاكم ؟ قالوا لذلّ اليتم والهوان بعدك ؟
فعند ذلك نظر إليهم وبكى ، فقالوا له : وما يبكيك أنت ؟
قال : أبكي لأني رأيت كلاً منكم يبكي لنفسه لا لي ، أما فيكم من بكى لطول سفري ؟! أما فيكم من بكى لقلة زادي ؟! أما فيكم من بكى لمضجعي في التراب ؟! أما فيكم من بكى لما ألقاه من الحساب ؟!  أما فيكم من بكى لوقوفي بين يدي رب الأرباب ؟! ثمّ سقط على وجهه فحركوه فإذا هو ميت .
قال ابن الرومي :
رأيت الدهر يجرح ثمّ يأسو
أبت نفسي الهلوع لفقد شيء
وقال آخر :
ويبكي على الموتى ويترك نفسه
ولو كان ذا عقل ورأي وفطنة

يعوض أو يسلي أو ينسي
كفى حزنا لنفسي فقد نفسي

ويزعم أن قد قلّ عنها عزاؤه
لكان عليه لا عليهم بكاؤه

الفيلسوف والسنَّور

الفيلسوف والسنَّور

 هناك مثل صيني يقول :
العقول الصغيرة تناقش الأشخاص ، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء ، والعقول الكبيرة تناقش المبادئ .
اسمع إلى حديث الأطفال الصغار تجدهم يقولون : أبي أقوى من أبيك ، وأمي أحسن من أمك ، وإذا ما كبروا قليلا صاروا يقولون : دراجتي أقوى من دراجتك ، ولعبتي أحسن من لعبتك . وإذا ما نضجت العقول انصرفت إلى المبادئ والأفكار .
أرقى الناس عقلا هم المفكرون والفلاسفة ، لذا تجدهم مشغولين بالبحث في الأسئلة الكبرى عن الوجود ،  وعندما سئل أحد الحكماء عن معنى الفلسفة قال : هي نقاش قضية الموت والحياة .
الموت مشكلة البشرية الأولى ، ومشكلة الإنسان الكبرى ، فمنذ بداية التاريخ والمفكرون يناقشون قضية الموت والحياة ، وكما هي قضية عامة هي أيضا قضية خاصة ، والعبي هو الذي يعيش حياته دون أن يجد حلا يقنع به لهذه المسألة .
من الغريب أن رجلا كان يسميه مريدوه " فيلسوف فلسطين "  ، ومات بالسرطان قبل سنتين ، كان يتبنى مقولة عن الموت مفادها : " نحن لا نخاف الموت ، لأننا حيث نكون لا يكون ، وحيث يكون لا نكون " . وبعد البحث وجدت أن هذه المقولة لفيلسوف يوناني يدعى أبيقور ( 341 ـ 270 ق.م ) ، وخلاصة الفكرة أنه يدعو لعدم التفكير في الموت ، فحل المسألة بأن ألغاها ، وقلت لأحد مريدي الفيلسوف الفلسطيني يوما : أحقا ، كان معلمكم لا يؤمن بأي شكل من الحياة بعد الموت ؟ فقال : لا ، بل كان يؤمن بتناسخ الأرواح . فقلت : سبحان الله ، لماذا في قضية الموت علينا أن نعود لما قبل الميلاد ، ولشعوب وثنية ، بينما دعواتكم كلها عن الحداثة وما بعد الحداثة !!
وتعود فكرة التناسخ إلى زمن فرعون موسى ، ثم تكرَّست عند الهنود ، باعثها محاولة تفسير سبب آلام الأطفال والبهائم ولا ذنب لهم ، فقالوا إنها لذنوب سلفت ، وملخصها أن أرواح أهل الخير تدخل في أبدان خيرة فتستريح ، أما أرواح أرباب الشر إذا خرجت تدخل في أبدان شريرة وتتعذب ، ثم تواصل الانتقال والعذاب وتعود إلى صورة إنسان بعد ألف سنة ، فإن أحسن لحق بالمحسنين ، وإن أساء أعاد ألف سنة  أخرى من العذاب .
جاء في كتاب "  تلبيس إبلبيس " القصة التالية على لسان  أبي بكر بن الفلاس:
دخلت على رجل يقول بالتناسخ من أهل بغداد ، فوجدت بين يديه سنورا أسود ( قطة كبيرة ) وهو يمسحها ، ويحك بين عينيها ، ورأيتها وعينها تدمع كما جرت عادة السنانير بذلك ، وهو يبكي بكاء شديدا ، فقلت له : لمَ تبكِ ؟ قال : ويحك ، أما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها ، هذه أمي لا شك ، وإنما تبكي من رؤيتها إليّ حسرة .
وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم منه ، وجعلت السنور تصيح قليلا قليلا . فقلت له : فهي تفهم عنك ما تخاطبها به ! فقال : نعم . فقلت : أتفهم أنت صياحها ؟ قال : لا . قلت : فأنت المنسوخ وهي الإنسان .
 وصدق علام الغيوب :
 ] وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ `وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ` قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[

العاشـر من رمضــان

العاشـر من رمضــان

هناك حروب مُذلّة وحروب مشرفة بغض النظر عن نتيجتها .
من الحروب المُذِّلة في تاريخنا المعاصر حرب حزيران 1967 ، حيث استطاع جيش العدو أن يحسم المعركة بست ساعات ، ويحول جيوش ست دول عربية إلى حمر مستنفرة فرت من قسورة . تلك حرب كان شعارها : برا ـ بحرا ـ جوا ، وكانت الإذاعات العربية تشجع جنودها في ساحة القتال ببث رسائل لرفع معنويات الجنود منها : الفنانة الفلانية معكم ، والمطرب الفلاني يدعو لكم ، والراقصة الفلانية تشد أزركم ، وانتهت الحرب وقد ضاع البر والبحر والجو .
حرب العاشر من رمضان 1400هـ أو السادس من تشرين ( أكتوبر ) 1973 كانت حربا مشرِّفة نوعاً ما ، ردَّت للجيوش العربية بعض كرامتها ، والجنود هم نفس الجنود ، فما الذي جرى ؟؟
 جاء في " منارات وليد الهودلي " القصة التالية :
قًبيل إعلان حرب العاشر من رمضان ، وبعد أن أحكمت الخطط العسكرية ، ووقف الجنود في الجبهات ينتظرون ساعة الصفر ، يومئذ كان الفريق سعد الدين الشاذلي يتفقد قادة الوحدات العسكرية ليطمئن على أدق التفاصيل ، دخل الشاذلي على الضابط " أحمد فوزي " المسؤول عن التوجيه المعنوي ، فوجده مستغرقا في إعداد خطبة نارية تلهب حماس الجند في المعركة ، وبدت على الضابط علامات الاضطراب والإرهاق ، فقد خانته قدراته الخطابية المشهودة ، فكان يكتب ويمزق ، يكتب ويمزق ، فقال له الفريق الشاذلي : أراك منهمكا ، ما أخبار معنويات الجنود ؟
أجاب الضابط :  المعنويات مرتفعة .
سأل الشاذلي :  فعلام أراك مرتبكا إذا ؟
رد الضابط :  منذ ساعات وأنا أحاول إعداد خطبة تلهب حماس الجنود ، وتبث فيه روح القتال والشجاعة ، ولكني كما ترى أكتب وأمزق ، لا أجد الكلمات المناسبة لمثل هذه المعركة .
فقال الفريق الشاذلي بصوت الواثق وبلهجة المحب : هل أدلك على خطبة من كلمة واحدة ، مختصرة وقوية ، محبوبة للجند ، يرددها اللسان بيسر ، وتصل إلى القلب وتفعل أعظم الأفعال ؟
فقال الضابط : أسعفني بها ، وأرحني من هذا العناء .
قال الشاذلي : قلت لك إنها كلمة واحدة ، إنها " الله أكبر " ، فهي نداء الانتصارات المجيدة ، وهتاف النصر المؤزر ، تملأ القلوب بعظمة الله ، فتطرد الخوف من النفوس ، وتجعل الجنود أسودا لا يخافون الموت .
قال الضابط فوزي وقد وجد ضالته : صدقت ، لا أدري كيف غابت عن بالي ، وقد ملئت السلة بالأوراق .
واتخذت الإجراءات اللازمة ، فتمَّ تركيب مُكبرات صوت على طول الجبهة بمعدل واحد في كل كيلومتر ، وأبلغت الإذاعة لكي تبث هذه الخطبة باستمرار ، وانطلقت ساعة الصفر مع صيحات " الله أكبر " في كل مكان ، فتقدم الجنود على وقعها أسودا يحطمون جدار بارليف ويعبرون القناة ، ويعيدون للأمة بعض كرامتها .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته :
كان من ثمرات محنة 67 : أنها أيقظت في الناس المعنى الديني ، والرجعة إلى الله ، وبدأت حركة إيمانية قوية في القوات المسلحة ، فكان الحرص على إقامة الصلاة ، وقام وعاظ الأزهر بدورهم في التنبيه والإحياء ، فلا غرو أن كان شعار الحرب " الله أكبر ".