جاء في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي ( ج 4/ص 474 ) : قال عبد الله بن محمد : " خرجت إلى ساحل البحر مرابطا ، فلمّا انتهيت إلى الساحل إذا أنا بخيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه ، وثقُل سمعه وبصره ، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه ، وهو يقول : اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ ، وفضلّتني على كثير ممن خلقت تفضيلا ، فقلت والله لأتين هذا الرجل ولأسألنه أنّى له هذا الكلام ، فأتيت الرجل فسلمت عيه فقلت : سمعتك وأنت تقول اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ ، وفضلّتني على كثير ممن خلقت تفضيلا ، فأيُّ نِعَمٍ من نِعَمِ الله عليك تحمده عليها ؟ وأي فضيلة تفضَّل بها عليك تشكره عليها ؟! قال : أوما ترى ما صنع ربي !! والله لو أرسل السماء عليّ نارا فأحرقتني ، وأمر الجبال فدمَّرتني ، وأمر البحار فغرّقتني ، وأمر الأرض فبلعتني ، ما ازددت لربي إلا شكرا ، لما أنعم عليّ من لساني هذا ، ولكن يا عبد الله إذ أتيتني فإني لي إليك حاجة ، قد تراني على أي حالة أنا ، أنا لست أقدر لنفسي على ضرٍّ ولا نفع ، ولقد كان معي ابن لي يتعهدني في وقت صلاتي فيوضيني ، وإذا جعت أطعمني ، وإذا عطشت سقاني ، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام ، فتحسسه لي رحمك الله .
فقلت : والله ما مشى خلقٌ في حاجة خلقٍ كان عند الله أعظم أجرا ممن يمشي في حاجة مثلك . فمضيت في طلب الغلام ، فلما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل ، فإذا أنا بغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه ، فاسترجعت وقلت : بأي شيء أخبر صاحبنا ؟ فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على بالي ذكر أيوب النبي عليه السلام ، فردّ علي السلام فقال : ألست بصاحبي . قلت : بلى . قال : ما فعلت في حاجتي ؟ قلت : أنت أكرم على الله أم أيوب النبي ؟ قال : بل أيوب النبي . قلت : هل علمت ما صنع به ربه ، أليس قد ابتلاه ربه بماله وأهله وولده ؟ . قال :بلى . قلت : فكيف وجده ربه ؟ قال : وجده صابرا شاكرا حامدا ، أوجز رحمك الله . قلت : لم يرض منه بذلك حتى أوحشه من أقربائه وأحبائه؟ قال : نعم . فقلت : فكيف وجده ربه ؟ قال : وجده صابرا شاكرا حامدا . قلت : فلم يرض منه بذلك حتى صيّره عرضا لمارِّ الطريق ، هل علمت ذلك ؟ قال : نعم : فقلت : فكيف وجده ربه ؟ قال : صابرا شاكرا حامدا ، أوجز رحمك الله . قلت له : إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل ، وقد افترسه سبع فأكل لحمه ، فأعظم الله لك الأجر ، وألهمك الصبر . فقال المُبتلى : الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقا يعصيه فيعذبه بالنار ، ثمّ استرجع وشهق شهقة فمات .
فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، عظمت مصيبتي في رجل مثل هذا ، إن تركته أكلته السباع ، وإن قعدت لم أقدر على ضرٍّ ولا نفع ، فسجيته بشملة كانت عليه ، وقعدت عند رأسه باكيا ، فبينما أنا قاعد إذ جاء أربعة رجال ، فقالوا : يا عبد الله ما حالك ؟ وما قصتك ؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته ، فقالوا لي اكشف لنا عن وجهه ، فعسى أن نعرفه . فكشفت عن وجهه ، فانكب القوم عليه يقبلونه ، ويقولون : بأبي عين طالما غضت عن محارم الله ، بأبي جسم طالما سجد لله والناس نيام . فقلت : من هذا يرحمكم الله ؟ فقالوا : هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس ، لقد كان شديد الحب لله وللرسول ـ صلّى اللهُ عليه وسلّم ـ . فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا ، وصلينا عليه ودفناه ، فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي ، فلما جنّ الليل وضعت رأسي ، فرأيت فيما يرى النائم في روضة من رياض وعليه حلتان من حلل الجنة ، وهو يتلو الوحي : ﴿ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾ ( الرعد 24 ) . فقلت : ألست بصاحبي ؟ قال : بلى . قلت : أنى لك هذا ؟" قال : إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية .