أســراجٌ مــع الشمــس؟!
أجمل ما يقرأ المرء ذلك ما صنفه العرب تحت باب الأجوبة المُسْكِتة ، فهناك الكلمة الواضحة ، والفكرة العميقة ، والحجة المفحمة ، وخير الأجوبة المسكتة ما جاء في القرآن الكريم ، انظر مثلا في المناقشة التي جرت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود :
]أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ [ .
وجاء في كتاب ربيع الأبرار : أن رجلا قال لجعفر بن محمد الصادق : ما الدليل على الله، ولا تذكر لي العلم والعرض والجوهر ؟ فقال له : هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، قال :هل عصفت بكم الريح حتى خِفتم الغرق؟ قال : نعم ، قال : فهل انقطع رجاؤك من المركب والملاحين؟ قال : نعم ، قال :تتبعت نفسك أن ثَمَّ من ينجيك؟ قال : نعم ، قال : فإن ذاك هو الله ، قال الله تعالى : ]وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُ في البَحْرِ ضلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلا إياه [ ، ] وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ .
و رُوِيَ عن أبي حنيفة : أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الله تعالى فقال لهم : إني مُفَكِّر في أمر قد أُخْبرت عنه : ذكروا لي أن سفينة في البحر فيها بضاعة وحمولة ،وليس بها أحد يقودها ،ولا يحرسها ومع ذلك تذهب وتجيء بنفسها في مقاومة الأمواج ، وترسو على الشواطئ ما بالكم أتصدقون ؟
قالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل .
فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم ،وما اشتملت عليه ليس لها صانع ! فبهت القوم وأسلموا على يديه .
في نهاية القرن التاسع عشر حكم الخديو اسماعيل مصر ، ومن وظائفه التشريفية الإشراف على شؤون الأزهر ، وكان يزوره قادة اليهود والنصارى ، ويجري بينهم نقاش في الدين والدنيا ، أحس الملك بسطحية ثقافته الدينية ، فحار في الدين الحق ، فسأل أحد معاونيه :
ـ من أعلم أهل مصر بالإسلام ؟
فقال المعاون : الشيخ محمد عبده .
قال الملك : حسنا ، ومن أعلم أهل مصر بالمسيحية ؟
قال المعاون : سيادة بابا القبط .
قسأل : ومن أعلم أهل مصر باليهودية ؟
قال المعاون : الحاخام الأكبر .
قال: أطلب منك أن تدعو الشيخ والبابا والحاخام إلى القصر على وجه السرعة .
وتم ما أراد الملك ، حضر الثلاثة ، وأعد لهم الملك مجلسا ، وبعد السلام والمجاملة ، قال الملك : اسمعوا ، أريد من كل منكم أن يقدم لي حجة واحدة فقط ، يثبت فيها أن دينه الصحيح ، دون أن يدخل في الفلسفة ، حجة واحدة فقط لا يزيد عليها ، ثم قال :
ـ تفضل يا سيادة الحاخام .
قال الحاخام بتواضع مصطنع :
ـ شكرا لتقديمي ، ولكني أقدم الكلام لسيادة البابا .
قال الملك : حسنا ، تفضل يا سيادة البابا .
فقال البابا : شكرا لكم ، وأنا بدوري أقدم الشيخ فهو أكبرنا سنا .
قال الملك : لا بأس ، تفضل يا شيخ .
أدرك الشيخ ذكاء محاوريه ، فهم يُريدون منه أن يبدأ بقضية ، ويَرُدُّون بأحسن منها كما في المبارزات الشعرية بين الفرزدق وجرير والأخطل أمام الخليفة عبد الملك ، ففكر الشيخ قليلا ، وقال :
ـ لا بأس ما دمتم قدمتموني فسوف أقول ، ولكن قبل قولي علينا أن نتفق جميعا على جواب سؤال : ما هي غاية الدين الكبرى ؟
قال الحاخام : الحياة الأبدية .
قال البابا : الدينونة .
قال الشيخ : أحسنتم ، غاية الدين متعلقة بالفوز بعد الموت .
فقال الملك : غاية الدين نيل رضا الله ودخول الجنة ، أتوافقون ؟
فقبلوا جمعيا ما لخصه الملك من إجابات ، فقال الشيخ :
ـ إذا دخل اليهود الجنة سيدخل معهم النصارى والمسلمون لأن أتباعهما يؤمنون بموسى عليه السلام ورسالته ، وإذا دخل النصارى الجنة فسيدخل معهم المسلمون لأنهم يؤمنون بعيسى ورسالته ، ولن يدخل معهم اليهود لأنهم لا يؤمنون بعيسى ورسالته ، أما إذا دخل المسلمون الجنة فلن يدخل معهم لا اليهود ولا النصارى لأنهم لا يؤمنون برسالة محمد r .
فأسقط في يد الحاخام والبابا ، نظر الملك إلى الجميع وقال :
ـ لقد قضي الأمر ، انصرفوا إلى أعمالكم .