الأحد، 25 سبتمبر 2011

فرعون أمة محمد ...

فِرعَـونُ أمّـةِ محمَّــد

يقول الله تعالى عن فرعون موسى :  
[ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ {96} إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ {97}يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ {98} ]  {هود }
معركة بدر من حيث عدد المشاركين فيها، وعدد القتلى، ومدة الاشتباك معركة صغيرة نسبيّاً،  إلا أن فيها عبرا جليلة ومواقف مشهودة لمن أراد أن يعتبر أو يتفكر، فكانت معركة الفرقان التي فصلت بين عصرين ومنهجين .
عند نهاية المعركة سأل الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ـ : من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليجزّ رأسه، وقال : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ فقال أبو جهل بكِبْر : بماذا أخزاني الله ؟ أو هل فوق رجل قتلتموه ؟ فلو غير أكّار ( أجير )  قتلني، ثم قال : أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال : لله ورسوله  . ثم قال لابن مسعود  ـ وكان قد وضع رجله على عنقه ـ لقد ارتقيت مرتقًا صعبا يا رويعي الغنم .
وبعد أن دار بينهما هذا الكلام اجتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ـ ، فقال : يا رسول الله ، هذا رأس عدو الله أبي جهل . فقال الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ـ غير مصدق : آلله الذي لا إله إلا هو !!! فرددها ثلاثا ، ثم قال : الله أكبر ، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرني إياه ، ولما رآه قال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ـ : هذا فرعون هذه الأمة .
بم صار أبو جهل فرعون هذه الأمة ، وفيها من آذى المسلمين أكثر منه ؟!
 نحاول تتبع مواقف أبي جهل التي ميّزته عن غيره من صناديد الكفر .
في مكّة عُرف عن أبي جهل أنه كان يتحدى الرسول ــ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  ويتوعده بالانتقام ، ومما عُرف  من قوله : (إن وضع محمد ــ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  جبهته على الأرض لأطأن رقبته ),
وفي قصة الهجرة اجتمع صناديد قريش في دار الندوة، وقدمت هناك اقتراحات كان منها:
اقترح أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا، وننفيه من بلادنا .
واقترح أبو البختري: احبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه بابا ، ثم تربصوا ما أصاب أمثاله من الشعراء من هذا الموت .
ولكن أبا الجهل كان صاحب اقتراح استئصالي متطرف: أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابا جليدا وسيطا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل جميعا.
وفي وقعة معركة بدر عندما بلغ جيش مكة أن أبا سفيان نجا بالقافلة، همّ أهل مكة بالرجوع، ورجع منهم الأخنس بن شريق مع بني زهرة، ولكن أبا جهل وقف في كبرياء وغطرسة قائلا :
واللهِ لا نرجع حتى نردَ بدرا ، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا .
لقد شارك فرعون أمة محمد فرعون موسى في موقفه من الجماعة المؤمنة، فهذا فرعون يريد أن يقتلع السحرة المؤمنين من الأرض، ويرد أن يجعلهم عبرة لمن بعده ليقلع بذور الإيمان من قلوب الناس، ولكنه خاب وخسر
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واحرسنا بعينك التي لا تنام ، وانصرنا على القوم الكافرين بعزّك الذي لا يُضام  .

الخميس، 22 سبتمبر 2011

درس في تعليم النفاق ..

درس في تعليم النفاق ..!!  

نستمع لهذه الآية بقلوب خاشعة، ونستمع للقصة بعدها بعقول متدبرة لعل الله يفتح علينا بأنوار الحكمة كي نصل إلى لعبرة المستفادة ، يقول الله تعالى:
[ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ۞  وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ]{ مريم:55 }
وانتبه أخي رعاك الله لقوله تعالى: صادق الوعد ، ويأمر أهله بالصلاة ...
والرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يعلمنا: (خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ).
 يروى أن رجلا شحيح النفس بخيل اليد كان يأمر ولده بالصلاة، ولكن الولد لا يسمع موعظة والده ، فبينهما صحراء من المشاعر اليابسة قلعت غراسها سلوكيات البخل عند والده، ذات يوم قال الأب لابنه : اسمع يا ولد ، إذا صليت فسوف أعطيك على كل صلاة جنيه .
ُسرّ الولد بعرض أبيه، فسوف يكون لديه ما يشتري به مثل سائر زملائه في المدرسة ، قام الولد صباحا وقال لأبيه لقد صليت الفجر ، فهات الجنيه الذي وعدتني به  قال الأب مبتسما : حسنا يا ولدي ، ولكن أليس من الأفضل لك ولي ، وأسهل للحساب أن أعطيك المكافأة في كل يوم ، وليس على كل صلاة ! فقال الولد : موافق، بعد صلاة العشاء آتيك ونتحاسب .
وبعد صلاة العشاء جاء الولد وقال لأبيه: لقد صليت اليوم الصلوات الخمس، ولي عندك خمسة جنيهات. فقال الأب: رائع يا بني، ولكنك ولد كبير والجنيهات الخمس لا تكفيك لشراء الحذاء الرياضي الذي تحتاجه، ما رأيك لو جمعتها لك حتى نهاية الأسبوع، ويكون المبلغ كافيا لشراء ما تحتاج .
وفي نهاية الأسبوع طلب الولد من أبيه الخمسة وثلاثين جنيها مكافأة الصلوات طوال الأسبوع، فأجله الأب لنهاية الشهر ، ووعده أن يدفع له مئة وخمسين جنيها، وتكون مبلغا كافيا لتحقيق حاجات الولد ، وعندما حل الأجل المضروب في نهاية الشهر ، أجلّه الأب لنهاية العام وأغراه أن مبلغا يتجاوز الألف وثمانمائة جنيه سيكون كافيا لتحقيق جميع أحلامه ، وتلبية جميع حاجاته دفعة واحدة ، وتكون جائزة كبرى لسنة مباركة .
وجاءت نهاية السنة ، فقصد الولد أباه ليفوز بالمكافأة الكبيرة ، فأجله الوالد يوما بعد يوم ، وثار بينهما خصام، فأعرب الأب عن نيته بعدم الدفع وقال : يا ولد ، لماذا تطلب مالا على صلاتك ، أنت لم تكن تصلي لي ، أنت كنت تصلي لله والله تعالى سيكافئك عليها ويعطيك أجرك ؟!  
فقال الولد: لا يا أبي، أنا متأكد تماما أن الله تعالى لن يعطيني أجري، وأريد أجري منك فورا.
فقال الأب: وكيف عرفت أن الله تعالى لن يعطيك أجرك ؟
فقال الولد: لأني يا أبي، صليت كل الصلوات بعد اليوم الأول بدون وضوء.
وهذا الأب البخيل أراد أن يقرب ابنه من الجنّة، فقربه من النار، لأن البخيل بعيد عن الله بعيد عن الجنة.  
وهذا الأب البخيل أراد أن ينجّي ابنه فأهلكه، لأن البخل من المهلكات.
وهذا الأب لم يستطع تعليم ابنه الإيمان فعلمه سوء الخلق،
وأراد هذا الأب أن يكون ابنه من عمله الذي لا ينقطع، فقطعه البخل، والرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يعلمنا:  ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ ) .  
والأخطر من كل ذلك أن هذا الأب البخيل وعد ابنه فأخلف، فعلم ابنه النفاق.
أحبُّ الشَّـياطين لإبليس    

يؤمن المسلم يقينا أن عدوه الأول هو الشيطان ، وأن عدوه الدائم هو الشيطان ، ولغير المسلم أن يرتّب قائمة أعدائه كما يشاء ، وذلك لأن الله العليم الحكيم أخبرنا بذلك في كتابه العزيز :
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ۞ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ]0فـاطر 0
ولكن من هو أخبث الشياطين وأمهرهم في تحقيق أهداف إبليس اللعين؟!
ومن هو أشطر الشياطين وأضرهم للإنسان ؟!
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر قال:
 قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  :
( إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة )
تنطلق الشياطين من عرش إبليس اللعين، في رحلة يومية ، تجوب الأرض توسوس للناس وتزيِّن لهم أعمالهم السيئة ، وتنشر الرذيلة والفجور في المجتمعات، ثم تعود إلى كبيرها إبليس، وتقدم له تقريرا عن أفعالها، فمن هو الشيطان الأكثر خبثا الذي جاء بأعظم جُرم فيكون الفائز بين الشياطين بالمرتبة الأولى بالشيطنة ، ويكون المحبوب عند أبيه اللعين إبليس ، فيأخذه  بالأحضان سرورا بما عمل ؟!
هل هو ذلك الخناس الذي ألهى المصلِّي عن صلاته،  فلم يعرف كم ركعة صلّى ؟
هل هو ذلك الشيطان الذي أغرى مسلما فشرب الخمر أو وقع في الزنا ؟
هل هو ذلك الخبيث الذي أوقع المسلم في الربا أو أكل مال الناس بالباطل ؟
هل هو ذلك المارد الذي سوّل للأخ قتل أخيه ؟
قد تعجبون إذا علمتم أن أحدا من هؤلاء الشيطان ليس هو الفائز بالجائزة الكبرى، والدرجة العليا، والمكانة الفضلى عند كبير الشياطين إبليس اللعين ، فمن هو إذا ؟!  
ذلك ما نعرفه من حديث الصادق الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين .
عن جابر قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  :
( إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال:  ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين امرأته.  قال:  فيدنيه منه، ويقول:  نعم أنت.  قال الأعمش أراه قال فيلتزمه ـ أي يعانقه طويلا بحرارة فرحا به ـ )     .
فأخبث الشياطين وأمكرها وأعداها للإنسان هو ذلك الذي يُحدث الشقاق بين المرء وزوجه، هذا الشقاق الذي هو المعول الرئيس في هدم الأسرة وتدميرها، والأسرة الخَرِبة المفكّكة هي الحاضنة الخبيثة لكل أنواع الانحرافات بعد ذلك ، فيخرج منها السارق والعاق والزاني والسارق والمنحرف، لذلك كان الشيطان الناجح في تدمير الأسرة هو الشيطان الأخبث عند إبليس.
ولذلك كان اهتمام المؤسسات الغربية وتركيز هجومها على الأسرة المسلمة تحت شعار حقوق المرأة وحقوق الطفل، لأن الأسرة المسلمة هي الحصن الأخير الباقي في بلاد المسلمين لتربية الأولاد على الدين والأخلاق.
ونستفيد من هذا الحديث في استنباط مقياس لمدى تغلغل الشياطين في المجتمع الإسلامي من خلال معرفة نسبة الطلاق في هذا المجتمع ، وعندما نسمع تلك الأرقام الخيالية عن نسب الطلاق في مجتمعاتنا العربية تنكشف أمامنا درجة عمل الشياطين فيها، ففي دول الخليج تتجاوز نسبة الطلاق الخمسين في المئة ، وتزيد عن ذلك في المغرب العربي، ونجدها في المجتمع الفلسطيني رغم الاحتلال والنكبات  حوالي  11% ، وهي نسبة وإن كانت أقل من غيرها من البلاد العربية إلا أنها مؤشر خطر ، لأن  قليل الشر كثير .

من أعظم الحسرات ...

أعظمُ الحسرات ...
يقول الله تعالى :
[ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ]  {( الحشر/9}
و الشُّح من أقبح الصفات، فهو مُنافٍ للإيمان، ولهذا قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  : ( لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا ) . ( إسناده صحيح) .
والشُّح من المهلكات، قال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: (.. وأما المهلكات: فشحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه ) (ذكره الألباني في صحيح الجامع ) .
والشح سبب للفجور وقطيعة الرحم،   قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ( إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ) .  (رواه أبو داود وأحمد )
والأمر الذي يثير العجب أن الشحيح يعيش الفقر وإن كان من أغنى الناس ، إذ يبخل حتى على نفسه ، وهو يجمع لغيره ، وهذا واقع مشاهد في حياة الناس ، ومما يروى في هذا  أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ دخل على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه ، فرآه ينظر إلى صندوق في بيته ، ثم قال :
ـ  يا أبا سعيد ، ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أؤد منها زكاةً ، ولم أصِلْ منها رحمـًا ؟
قال الحسن: ثكلتك أمك، ولم كَنْتَ تجمعها ؟
قال : لروعة الزمان ، وجَفوة السلطان ، ومكاثرة العشيرة .
 ثم مات ، فلما فرغوا من دفنه قال الحسن ـ  رحمه الله ـ   : انظروا إلى هذا المسكين ، أتاه شيطانه فحذّره روعة زمانه ، وجفوة سلطانه ، ومكاثرة عشيرته ، عما رزقه الله إياه وغمره فيه،  انظروا كيف خرج منها مسلوبـًا محرومـًا ، ثم التفت إلى الوارث فقال : أيها الوارث ، لا تُخدعنَّ كما خُدع صويحبك بالأمس ، أتاك هذا المال حلالاً، فلا يكونن عليك وبالاً ،أتاك عفوًا صفوًا ممن كان له جموعـًا منوعـًا ، من باطل جمعه ، ومن حق منعه، إن  يومَ القيامة يومٌ ذو حسرات، وإن من أعظم الحسرات غدًا أن ترى مالك في ميزان غيرك فيا لها عثرة، لا تُقال، وتوبة لا تُنال.
فيا لله كم كان فضله علينا بالقرآن عظيما، فهو طب القلوب، فيه كشف أصل الداء ووصف نافع الدواء ؟
فالمسلم يعطي ليساعد الناس ماديّا، ولكنه بذات الوقت يحرر نفسه من أمراض مهلكة مثل الشح، ويدخر أجره عند الله تعالى خير وأبقى .

قبيل الغرغرة ..

قُبيـلَ الغَـرْغَـرة      
قال الله تعالى :
[ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ۞ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضـَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ]
روى البخاري عن أنس بن مالك أن غلاماً يهودياً من عامّة أهل المدينة، كان يعمل خادماً في بيوت يثرب وأحيائها، يقضي الحوائج، ويعين في الأعمال، راضياً بما يحصل عليه من زهيد الأجر.
وينتهي المطاف بالفتى في بيت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َـ  ليعيش في كَنَفه ويتفيّأ من ظلاله، فأبصر نموذجاً لم يعهده من الأخلاق  السامية والخصال الفاضلة، إذ لم يسبق له أن رأى سيّداً لا يضرب خادمه ولا يعنّفه، ولكن يُحسن إليه ويلاطفه، بل ويزيد على ذلك بأن يطعمه مما يطعم، ويُلبسه مما يلبس، فلا عجب أن شغف الفتى بالنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  وأحبّه عن قرب.
وتمرّ الأيّام كالشهد المصفّى على قلب الفتى اليافع، وهو في ذلك حريصٌ على نقل مشاهداته إلى والده، فيسرد له من أخباره عليه الصلاة والسلام وعاطرِ سيرته، ويُسرّ الأب بما يلاقيه ولده من كريم المعاملة وطيب المعشَر، وتقع في نفسه أبلغ موقع.
حتى أتى ذلك اليوم الذي افتقد فيه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خادمه اليهوديّ، ولما سأل عنه جاءه الخبر بأن الفتى طريح الفراش يُصارع سكرات الموت، فيُهرع عليه الصلاة والسلام لزيارته، وهو يخشى أن يكون قدومه قد جاء بعد فوات الأوان.
دخل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على الفتى، وجلس عند رأسه، متأمّلاً في ملامحه المرهقة وجسده المتعب الذي أنهكه المرض، فقال له:  أسلم، يريده أن ينطق بكلمة التوحيد، وأن يدخل في حياض الدين، حتى يُكتب من الفائزين.
والفتى منذ أن رأى أخلاق النبوّة قد شرح الله صدره للإسلام، لكنّه كان يخشى في الوقت ذاته من رفض والده أن يُذعن للحق، فجعل يلتفت إليه تارة، وإلى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تارة أخرى.
وظلّ الفتى يرقب شفتي والده، وهو لا يدري ماذا سيكون جوابه، وينطق الأب أخيرا : " أطع أبا القاسم"، فيُسرع الفتى بالنطق بالشهادتين، ومع آخر ألفاظها خرجت روحه الطاهرة إلى بارئها.
ويخرج النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ والبِشر ظاهرٌ على قسمات وجهه، ولسانه لم يفتر عن حمد الله عزّ وجل على هذه النعمة : الحمد لله الذي أنقذه من النار)
وجاء في كتاب (بحر الدموع) الإمام ابن الجوزي.
روي عن الحسن البصري ـ  رضي الله عنه ـ  أنه قال:" دخلت على بعض المجوس وهو يجود بنفسه عند الموت، وكان حسن الجوار، وكان حسن السيرة، حسن الأخلاق، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت، ويميته على الإسلام، فقلت له: ما تجد، وكيف حالك؟ فقال: لي قلب عليل ولا صحة لي، وبدن سقيم، ولا قوة لي، وقبر موحش ولا أنيس لي، وسفر بعيد ولا زاد لي، وصراط دقيق ولا جواز لي، ونار حامية ولا بدن لي وجنّة عالية ولا نصيب لي، ورب عادل ولا حجة لي.
قال الحسن: فرجوت الله أن يوفقه، فأقبلت عليه، وقلت له: لم لا تُسلم حتى تَسلم؟ قال: إن المفتاح بيد الفتاح، والقفل هنا، وأشار إلى صدره وغشي عليه.
قال الحسن: فقلت: الهي وسيدي ومولاي، إن كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها إليه قبل فراق روحه من الدنيا، وانقطاع الأمل.
فأفاق من غشيته، وفتح عينيه، ثم أقبل وقال: يا شيخ، ان الفتَّاح أرسل المفتاح. أمدد يمناك، فأنا أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم خرجت روحه وصار إلى رحمة الله.

الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

متى يتعفن الطالم حيّا ... !!

يتـعـفَّـن حيَّـا  

نستمع بخشوع القانتين، وننصت إنصات المتقين، ونتدبر في قول الله تعالى لعلنا نكون من المفلحين :
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]
في  موسم الحج لسنة 317 هـ حدثت طامة كبرى، إذ هاجم القرمطي أبو طاهر الجنابي وجنوده جموعَ الحجاج يوم التروية، والحجيج  يهللون ويلبُّون، فقتلوا الحجاج قتلا ذريعا في فجاج مكة، وداخل البيت الحرام ،ولم يسلم منهم حتى الذين تعلقوا بأستار الكعبة، ويقال أنه قتل منهم نحو عشرة آلاف، وطرح كثيرا من جثثهم في بئر  زمزم !!  وأنه كان يجلس علي باب الكعبة والحجيج يصرعون حوله في المسجد الحرام وهو ينشد ـ والعياذ بالله ـ:
أنا لله وبالله أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا ...!!
 وعرَّى البيت الحرام من كسوته، وقلع بابه، واقتلع الحجر الأسود، وأخذه معه إلى مدينة هجر، ونهب جميع التحف التي زين بها الخلفاء الكعبة علي مز الأزمنة.. وما  كانوا وضعوها من الجواهر النفسية،ولم يحج الناس حتى سنة 326 هـ  خوفا من شره وشر أتباعه من القرامطة .
وظل الحجر الأسود مخطوفا هناك حتى ردّ إلى مكانه في عهد الخليفة المطيع سنة 339هـ.
العبرة  في الموضوع أن الجنابي مرض بنوع غريب من الجدري، فكانت أطرافه تتعفن وتموت وتسقط ، ومات في شهر رمضان لسنة 332 هـ ، بعد أن تقطعت بسببه أوصاله وأطرافه وهو ينظر إليها..
و كان زنديقا لا يصلي ولا يصوم ولا يؤدي فرائض الإسلام، مع تظاهره  بأنه مسلم وزعمه أنه داعية عبيد الله بن المهدي بأفريقيا.
وما أشبه اليوم بالبارحة !!
في 28 / 9 / 2000م اقتحم السفاح (أريئيل شارون) ساحات المسجد الأقصى ، في عملية رافقه فيها ثلاثة آلاف جندي ، دخل خائفا رغم أن القدس تخضع لسيطرة أمنية دقيقة ، ووقف شارون يتبجح وقفة ذكرت الناس بتلك الوقفة المتكبرة على جثث الجنود الأسرى من الجيش المصري الذين سحقوا تحت جنازير الدبابات أحياء في حربه مع مصر ، وقفة تذكر الناس بتلك الوقفة على مشارف مخيمي صبرا وشاتلا، حيث أشرف السفاح على ذبح ثلاثة آلاف فلسطيني من سكان المخيم العزّل بعد رحيل المقاتلين، واندلعت بسبب زيارته  انتفاضة الأقصى و قتل جنود السفاح خلالها آلاف الأبرياء واغتالوا رموز وقادة الشعب الفلسطيني .  
ولم يطل حلم الحليم ، ففي 10 /2/ 2006أصيب السفاح الساعي لخراب الأقصى  بجلطة ودخل في غيبوبة أبدية ، وقال الطبيب المسئول عن علاجه : إن شارون يعيش في حالة ( الوعي الأدنى) حيث يحس بالألم بشكل ما ، ومع استمرار الغيبوبة يضطر الأطباء بين فترة وأخرى لقص جزء من أمعائه لأنها تتعفن .
 وصدق العلي العظيم : لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ..

الاثنين، 19 سبتمبر 2011

المصطفون الأخيار ... !!

المصطفـون الأخـيار       
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ {45} إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ {46} وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ [ سورة ص ]
 يذكرنا الله تعالى في هذه الآيات أنه اتخذ من عباده أصفياء اختارهم عنده من بين كل الناس، ومن صفاتهم :  
 أولا القوة: فهم أقوياء في العمل الصالح والعبادة .
ثانيا البصيرة: فهم أهل علم نافع وبصيرة نافذة في الحق .
وكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى خصهم بخاصية خالصة لهم هي ذكرى الدار . فما هي هذه الصفة ؟
قال مالك بن دينار:  نزع الله من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها .
 وقال قتادة : كانوا يُذكَّرون الناس بالدار الآخرة والعمل لها .
وقال مجاهد : أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هم غيرها.
قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  :
( إذا كان يوم شديد الحر فقال العبد: لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم، اللهم أجرني من حر جهنم. قال الله لجهنم: إن عبدًا من عبادي قد استجار بي منك وقد أجرته. وإذا كان يوم شديد البرد فقال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم. اللهم أجرني من زمهرير جهنم. قال الله لجهنم: إن عبدًا من عبادي قد استجار بي منك فأجرتـه ).
فهذا رجل من المصطفين الأخيار ، حرّ الدنيا يذكره بحر جهنّم ، وبردها يذكره بزمهريرها .
قال أبو رزين العقيلي للنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  : كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «هل مررت بواد أُهلك محلاً،  ثم مررت به يهتز خضرًا؟ » قال نعم. قال: «كذلك يخرج الله الموتى، وذلك آيته في خلقه» أخرجه الإمام أحمد.
كان بعض الصالحين  يخرج في أيام الرياحين والفواكه إلى السوق فيقف وينظر ويعتبر ويسأل الله الجنة.
وروي أن سعيد بن جُبير مر بشباب من أبناء الملوك جلوس في مجالسهم في زينتهم فسلموا عليه، فلما بعد عنهم بكى واشتد بكاؤه، وقال: ذكرني هؤلاء شباب أهل الجنة.
و تزوج صلة بن أشيم  معاذة  العدوية وكان من كبار الصالحين، فأدخله ابن أخيه الحمام المسخن بالنار، ثم أدخله على زوجته في بيت مطيب منجد، فقاما يصليّان إلى الصباح. فسأله ابن أخيه عن حاله؟ فقال: أدخلتني بالأمس بيتًا أذكرتني به النار ـ يقصد الحمّام ـ وأدخلتني الليلة بيتًا أذكرتني به الجنة، فلم يزل فكري في الجنة والنار إلى الصباح.
مر أبو حازم سلمة بن دينار بسُوق الفاكهة فقال‏:‏ مَوْعدك الجنّة‏.‏
ومرَّ بالجزًارين فقالوا له‏:‏ يا أبا حازم هذا لحم سمين فاشتَر.  قال‏:‏ ليس عندي ثَمَنُه قالوا‏:‏ نُؤخرك قال‏:‏ أنا أُؤخر نفسي‏.
وروي عن سفيان الثوري أنه مرَّ على حدَّاد فرأى شرَر النار يتطاير فجعل يبكي .
وقال الحسن: كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ربما توقد له النار ثم يدني يديه منها، ثم يقول: يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر؟!
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح بالليل فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حِسْ، حِسْ. ثم يقول: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا، ما حملك على ما صنعت يوم كذا!!
وأخرج ابن أبي الدنيا من رواية سعد بن الأخرم، قال: كنت أمشي مع ابن مسعود، فمر بالحدادين، وقد أخرجوا حديدًا من النار، فقام ينظر إليه ويبكي.
وكان ابن مسعود إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار؛ فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة، ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وتلا قوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفُرقان: 24] .
فينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرّها في الموقف؛ فإن الشمس تدنو من رءوس الناس يوم القيامة ويزاد في حرّها، وليس هناك ظل إلا بالأعمال الصالحة.
سبحان الله ، ما رأى العارفون بالله شيئًا من الدنيا إلا تذكروا به ما وعدهم الله  من جنسه في الآخرة، وعلموا أن ذلك دليلاً يعرِّفهم بخالقهم جل جلاله وتقدست أسماؤه .
أبصار صافية طاهرة نقية، تنعكس عليها صور الدنيا فتنطبع في القلوب صور الآخرة، فهم يرون الدنيا بأبصارهم ويرون الآخرة بقلوبهم .
اللهم لا تجعل الدنيا همنا ولا مبلغ علمنا، و اجعلها جسرنا إلى جنتك يا أرحم الراحمين.

الأرواح جنود مجندة .. !!

الأرواح جنـودٌ مجنّـَدة
يقول الله تعالى في سورة مريم :
[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [
ورد في صحيح البخاري عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ ـ  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ  قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  يَقُولُ :
" الأَرْوَاحُ جُنُـودٌ مُجَنَّـدَةٌ فَمَا تَعَـارَفَ مِنْهَا ائْتَـلَفَ وَمَا تَنَـاكَرَ مِنْـهَا اخْتَلـَفَ "
في هذا الحديث تشبيه لتجمع الناس مع أشباههم مثل فرق الجنود، فالمشاة مع المشاة ،والبحرية مع البحرية ، والمظليون مع المظليين ، وفي الواقع الأخيار مع الأخيار ، والأشرار مع الأشرار ، الصائمون مع الصائمين ، والمفطرون مع المفطرين ، هكذا اجتمع بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي، وهكذا تآخى الأنصار والمهاجرون ، ونجد أن المنافقين كان بعضهم يميل إلى بعض، ويتناجون فيما بينهم بالإثم في مجلس النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ  وفي الجهاد أيضا ينكصون معا .
 فأرواح الصالحين تقودهم لتجْمعهم بلا ميعاد ولا ترتيب، وكأنها مبرمجة تقود الأجساد نحو أشباهها من الناس، فينجذب كلٌ لشبيهه، ولهم في ذلك حكايات كثيرة منها ... 
خرج إمام أهل السنة أحمد بن حنبل من السجن وقد ضعف جسمه وسرت الأمراض في أوصاله من شدة التعذيب وطول المدَّة، ولكن همته بقيت ثابتة ثبوت عقيدته في قلبه، وجاء أصحابه يزورونه ويهنئونه بالثبات على الحق، وكان للإمام أحمد صديق حبيب إلى قلبه ـ رغم أنه كان يخالفه كثيرا في مسائل الفقه ـ  هو إسحاق بن راهويه ،و يذكر الإمام  أحمد عن أبن راهويه ـ رغم الخلاف ـ   فيقول :"  لم يعبُر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً " . وله مع صديقه قصة طريفة . .  
والقصة رواها ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد عن ابن الجوزي،على لسان عبد الله بن الإمام أحمد قال  : 
"   لما أُطلق أبي من المحنة خَشي أن يجئ إليه إسحاق بن راهويه،  فرحل أبي إليه،  فلما بلغ الرَّي دخل إلى مسجد فجاء مطر كأفواه القرب،  فلما كانت العتمة قالوا له:  أُخرُج من المسجد فإنا نريد أن نغلقه.
 فقال لهم:  هذا مسجد الله وأنا عبد الله !!
فقيل له: بعد كَري الصناع ما أعطيناهم ـ أي كلفنا أموال كثيرة دفعناها للصناع حتى صار مسجدا ـ أيما أحبُّ إليك تخرج أو نجرُّ برجلك.!!
 قال أحمد، فقلت: سلاماً.
 فخرجت من المسجد والمطرَ والرعد والبرق، فلا أدري أين أضع رجلي، ولا أين أتوجه، فإذا رجل قد خرج من داره فقال لي: يا هذا أين تمرُّ في هذا الوقت؟
 فقلت: لا أدري أين أمر .
فقال لي:  أدخل .
فأدخلني داراً ونزع ثيابي وأعطوني ثياباً جافة، وتطهرت للصلاة ، فدخلت إلى بيت فيه كانون فحم ولبود ومائدة منصوبة.
فقيل لي:كُل، فأكلت معهم .
فقال لي: من أين أتيت؟ فقلت:  من بغداد. 
فقال لي:  تعرف رجلاً يُقال له أحمد بن حنبل؟
 فقلت:  أنا أحمد بن حنبل.
 فقال لي: وأنا إسحاق بن راهويه .
فسبحان الذي جمع بين أهل المحبة في الليل بغير وسيلة ولا ميعاد، فالأرواح جنود مجندة تتعارف وإن بعد السفر وطال الزمان .
اللهم اكتب لنا ولوالدينا رفقة محمد الأمين والصحابة والصالحين في جنات النعيم .