الأحد، 24 فبراير 2013

الفيلسوف والسنَّور

الفيلسوف والسنَّور

 هناك مثل صيني يقول :
العقول الصغيرة تناقش الأشخاص ، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء ، والعقول الكبيرة تناقش المبادئ .
اسمع إلى حديث الأطفال الصغار تجدهم يقولون : أبي أقوى من أبيك ، وأمي أحسن من أمك ، وإذا ما كبروا قليلا صاروا يقولون : دراجتي أقوى من دراجتك ، ولعبتي أحسن من لعبتك . وإذا ما نضجت العقول انصرفت إلى المبادئ والأفكار .
أرقى الناس عقلا هم المفكرون والفلاسفة ، لذا تجدهم مشغولين بالبحث في الأسئلة الكبرى عن الوجود ،  وعندما سئل أحد الحكماء عن معنى الفلسفة قال : هي نقاش قضية الموت والحياة .
الموت مشكلة البشرية الأولى ، ومشكلة الإنسان الكبرى ، فمنذ بداية التاريخ والمفكرون يناقشون قضية الموت والحياة ، وكما هي قضية عامة هي أيضا قضية خاصة ، والعبي هو الذي يعيش حياته دون أن يجد حلا يقنع به لهذه المسألة .
من الغريب أن رجلا كان يسميه مريدوه " فيلسوف فلسطين "  ، ومات بالسرطان قبل سنتين ، كان يتبنى مقولة عن الموت مفادها : " نحن لا نخاف الموت ، لأننا حيث نكون لا يكون ، وحيث يكون لا نكون " . وبعد البحث وجدت أن هذه المقولة لفيلسوف يوناني يدعى أبيقور ( 341 ـ 270 ق.م ) ، وخلاصة الفكرة أنه يدعو لعدم التفكير في الموت ، فحل المسألة بأن ألغاها ، وقلت لأحد مريدي الفيلسوف الفلسطيني يوما : أحقا ، كان معلمكم لا يؤمن بأي شكل من الحياة بعد الموت ؟ فقال : لا ، بل كان يؤمن بتناسخ الأرواح . فقلت : سبحان الله ، لماذا في قضية الموت علينا أن نعود لما قبل الميلاد ، ولشعوب وثنية ، بينما دعواتكم كلها عن الحداثة وما بعد الحداثة !!
وتعود فكرة التناسخ إلى زمن فرعون موسى ، ثم تكرَّست عند الهنود ، باعثها محاولة تفسير سبب آلام الأطفال والبهائم ولا ذنب لهم ، فقالوا إنها لذنوب سلفت ، وملخصها أن أرواح أهل الخير تدخل في أبدان خيرة فتستريح ، أما أرواح أرباب الشر إذا خرجت تدخل في أبدان شريرة وتتعذب ، ثم تواصل الانتقال والعذاب وتعود إلى صورة إنسان بعد ألف سنة ، فإن أحسن لحق بالمحسنين ، وإن أساء أعاد ألف سنة  أخرى من العذاب .
جاء في كتاب "  تلبيس إبلبيس " القصة التالية على لسان  أبي بكر بن الفلاس:
دخلت على رجل يقول بالتناسخ من أهل بغداد ، فوجدت بين يديه سنورا أسود ( قطة كبيرة ) وهو يمسحها ، ويحك بين عينيها ، ورأيتها وعينها تدمع كما جرت عادة السنانير بذلك ، وهو يبكي بكاء شديدا ، فقلت له : لمَ تبكِ ؟ قال : ويحك ، أما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها ، هذه أمي لا شك ، وإنما تبكي من رؤيتها إليّ حسرة .
وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم منه ، وجعلت السنور تصيح قليلا قليلا . فقلت له : فهي تفهم عنك ما تخاطبها به ! فقال : نعم . فقلت : أتفهم أنت صياحها ؟ قال : لا . قلت : فأنت المنسوخ وهي الإنسان .
 وصدق علام الغيوب :
 ] وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ `وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ` قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[

العاشـر من رمضــان

العاشـر من رمضــان

هناك حروب مُذلّة وحروب مشرفة بغض النظر عن نتيجتها .
من الحروب المُذِّلة في تاريخنا المعاصر حرب حزيران 1967 ، حيث استطاع جيش العدو أن يحسم المعركة بست ساعات ، ويحول جيوش ست دول عربية إلى حمر مستنفرة فرت من قسورة . تلك حرب كان شعارها : برا ـ بحرا ـ جوا ، وكانت الإذاعات العربية تشجع جنودها في ساحة القتال ببث رسائل لرفع معنويات الجنود منها : الفنانة الفلانية معكم ، والمطرب الفلاني يدعو لكم ، والراقصة الفلانية تشد أزركم ، وانتهت الحرب وقد ضاع البر والبحر والجو .
حرب العاشر من رمضان 1400هـ أو السادس من تشرين ( أكتوبر ) 1973 كانت حربا مشرِّفة نوعاً ما ، ردَّت للجيوش العربية بعض كرامتها ، والجنود هم نفس الجنود ، فما الذي جرى ؟؟
 جاء في " منارات وليد الهودلي " القصة التالية :
قًبيل إعلان حرب العاشر من رمضان ، وبعد أن أحكمت الخطط العسكرية ، ووقف الجنود في الجبهات ينتظرون ساعة الصفر ، يومئذ كان الفريق سعد الدين الشاذلي يتفقد قادة الوحدات العسكرية ليطمئن على أدق التفاصيل ، دخل الشاذلي على الضابط " أحمد فوزي " المسؤول عن التوجيه المعنوي ، فوجده مستغرقا في إعداد خطبة نارية تلهب حماس الجند في المعركة ، وبدت على الضابط علامات الاضطراب والإرهاق ، فقد خانته قدراته الخطابية المشهودة ، فكان يكتب ويمزق ، يكتب ويمزق ، فقال له الفريق الشاذلي : أراك منهمكا ، ما أخبار معنويات الجنود ؟
أجاب الضابط :  المعنويات مرتفعة .
سأل الشاذلي :  فعلام أراك مرتبكا إذا ؟
رد الضابط :  منذ ساعات وأنا أحاول إعداد خطبة تلهب حماس الجنود ، وتبث فيه روح القتال والشجاعة ، ولكني كما ترى أكتب وأمزق ، لا أجد الكلمات المناسبة لمثل هذه المعركة .
فقال الفريق الشاذلي بصوت الواثق وبلهجة المحب : هل أدلك على خطبة من كلمة واحدة ، مختصرة وقوية ، محبوبة للجند ، يرددها اللسان بيسر ، وتصل إلى القلب وتفعل أعظم الأفعال ؟
فقال الضابط : أسعفني بها ، وأرحني من هذا العناء .
قال الشاذلي : قلت لك إنها كلمة واحدة ، إنها " الله أكبر " ، فهي نداء الانتصارات المجيدة ، وهتاف النصر المؤزر ، تملأ القلوب بعظمة الله ، فتطرد الخوف من النفوس ، وتجعل الجنود أسودا لا يخافون الموت .
قال الضابط فوزي وقد وجد ضالته : صدقت ، لا أدري كيف غابت عن بالي ، وقد ملئت السلة بالأوراق .
واتخذت الإجراءات اللازمة ، فتمَّ تركيب مُكبرات صوت على طول الجبهة بمعدل واحد في كل كيلومتر ، وأبلغت الإذاعة لكي تبث هذه الخطبة باستمرار ، وانطلقت ساعة الصفر مع صيحات " الله أكبر " في كل مكان ، فتقدم الجنود على وقعها أسودا يحطمون جدار بارليف ويعبرون القناة ، ويعيدون للأمة بعض كرامتها .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته :
كان من ثمرات محنة 67 : أنها أيقظت في الناس المعنى الديني ، والرجعة إلى الله ، وبدأت حركة إيمانية قوية في القوات المسلحة ، فكان الحرص على إقامة الصلاة ، وقام وعاظ الأزهر بدورهم في التنبيه والإحياء ، فلا غرو أن كان شعار الحرب " الله أكبر ".

أبو دلامة أبرد من فلحس

أبو دلامة أبرد من فلحس
والفلاحس في بلادنا كثيرون

  كتاب الحيوان للجاحظ من أشهر كتب التراث ، والكتاب مناظرة  بين صاحب الديك وصاحب الكلب ، فلماذا الديك والكلب ؟‍‍!
لأنه شتان بين ديك يوقظ الناس لصلاة الفجر ، وكلب يعوي طوال الليل حتى إذا جاء الفجر خنس ، وشتان بين ديك يجد حبيبات قمح لا تكفيه وحده ، فيصير يقلبها وينادي بنات جنسه من الدجاج يأكلنها ، وبين كلب يقع على جيفة حمار ميت تكفي قطيعا من الكلاب ، فينهش من الجيفة ويقاتل كل كلب يحاول الاقتراب ، افترق الكلب والديك ، فكان الديك رمز الإيثار ، وكان الكلب رمز الأثرة . 
وهناك من الناس من هو أخس خلقا من الكلب ، لأن الكلب يطلب ما يريد بأنيابه ومخالبه ، وهما أخس ما في الكلب ، ولكن مِن الناس مَنْ يطلب مَطلب الكلب بلسانه وقلبه وهما أكرم ما في الإنسان .
جاء في عيون الأخبار لابن قتيبة  :
   بلغنا عن أبي دلامة أنه دخل على المهدي ، فأنشده قصيدة ، فقال له : سلني حاجتك . فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي كلبا ، فغضب الأمير وقال : أقول لك سلني حاجتك فتقول لي هب لي كلبا ؟! فقال : يا أمير المؤمنين ، الحاجة لي أم لك ؟ قال : لك . فقال : أسألك أن تهب لي كلب صيد . فأمر له بكلب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هبني خرجت إلى الصيد بكلبي ، أأعدوا على رجلي ؟ فأمر له بدابة ، فقال : فمن يقوم عليها ؟ فأمر له بغلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، فهبني صِدْتُ صيدا ، فأتيت به المنزل ، فمن يطبخه ؟ فأمر له بجارية ، فقال : هؤلاء أين يبيتون ؟ فأمر له بدار ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لقد صيرت في رقبتي جمعا من العيال ، فمن يقوت هؤلاء ؟ فضحك وأمر له بمال .
والعرب تقول في المثل :
 " أبرد من فلحس " .
ولكن فلحس أبرد من أبي دلامة ، لأنه يطلب مثله ولا يُقدم شيئا  .
وفلحس هذا سيد من بني شيبان كان يطلب سهما من غنيمة الجيش ، وهو في بيته لم يباشر الغزو ،  فيُعطى ، ثم يطلب لامرأته ، فإذا أعطي طلب أيضا لبعيره ، فسار به المثل.   
وفي بلادنا فلاحس كثيرون من المستوزرين وكبار الموظفين ، فتصرف له سيارة للعمل ، فيطلب سيارة خاصة فينالها ، وتصرف له سيارة خاصة ، فيطلب سيارة لزوجته ، فتنالها ، فيطلب سيارة لابنته التي تدرس في الجامعة ، فتنالها ، وحمدا لله أن كلبه العزيز عليه كولد من أولاده لا يتقن السياقة .
وشتان بين أمة لها نفسية الكلب ، وتظل تعوي في ظلام الزمان تأخذ ولا تعطي ، ونفسية الديك التي تصيح لتوقظ الفجر من غلس الظلام . ومثل أمة الديك في التاريخ أمة الأنصار في المدينة ، تلك الأمة التي تؤثر على نفسها ولو كان بها خصاصة ، والذين دعا لهم الرسول الكريم r : " رحم الله الأنصار كانوا يكثرون عند الفزع ، ويقلون عند الطمع " .

لولا الحسنى لـنفر وكـفر

لولا الحسنى لـنفر وكـفر

جاء في كتاب الله الكريم : ] ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ [ ، هنا يلاحظ القارئ أن الله سبحانه وتعالى لم يُقُِّيد الحكمة ، وقَيَّد الموعظة بأنها حسنة ، وقيد المجادلة بالتي هي أحسن ، والحكمة تربط العلم بالعمل أو بالخبرة ، لذا نسمي الطبيب حكيما ، وعرَّف أحدهم  الحكمة بأنها :
وضع الشيء المناسب ، في المكان المناسب في الزمان المناسب ، عند الشخص المناسب.
وقال الله تعالى في فضل الحكمة : ]يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ[
وقيل هنا أن الموعظة الحسنة  والمجادلة بالتي هي أحسن  نوعان من الحكمة ، لذا تركت الحكمة بلا تخصيص وجاء ما بعدها مُخصصًا ، فالحكمة أصل والموعظة والمجادلة فرعان  وهناك فروع غيرهما ومنها الدفع بالتي هي أحسن .  
جاء في كتاب (الذخيرة للإمام القرافي ) خبرا لطيفا في كيفية الدفع بالتي هي أحسن : كان زيد بن بشر عالما يدرِّس الناس في جامع بطرف سوق الخرَّازين ( الذين يعملون في خياطة الجلود ) فأقبل يوما يريد الجامع ، وحوله الطلبة ، فإذا بشاب خرَّاز يقول لجار له على مسمعهم : ما رأيت أوحش من هذا الشيخ ولا أوحش لباسا من لباسه ، وكان زيد يلبس المفرَّج ـ نوع من الثياب مفتوح من الأمام ـ فلما سمع زيد كلام الشاب لم يلتفت وأسرع إلى الجامع ، ولما عاد ذات الطريق عاوده الشاب بقبيح اللفظ ، فانصرف زيد ولم يلتفت له .
فاتفق طلبة زيد على أن يضربوا الشاب ، فلما بلغ ذلك زيداُ قال : ما هذا الذي أردتم ؟ وما الذي بلغني أنكم تنفستم به في شأن الشاب ؟ فقالوا : هو ما قيل لك ، أصلحك الله ، لاستخفافه بحقك وامتهانه لقدرك وعلمك . فقال لهم : أعطى الله عهدا إن تقدم إليه أحد منكم  إلا بالتي هي أحسن ما وطئ لي بساطا ، وأنا أصلح شأن ذلك الشاب.
فصرَّ صُرّة فيها عشرة دراهم وجعلها في جبته ، واستعمل لفردة نعل من نعليه قِبالا (السير الذي يكون بين الإصبعين ) واهيا ثم توجه إلى الجامع ، فلما مرّ بالشاب عاود اللفظ القبيح حسب عادته ، فلما حاذاه اتكأ على القبال فقطعه ، ثم مال إلى الشاب فسلّم عليه ، ثم قال : أي بني ، لعلَّ عندك قبالا ؟ فأعطاه قبالا ، فدفع إليه بالصرّة ، فقال له الشاب : ما بال هذه الصرّة ؟ فقال : إنك صنعت لي هذا القبال فهو مكافأة لك عليه . وانصرف مع الطلبة إلى الجامع .
فلما عاد من الجامع وقَرُب من حانوت الشاب ، قام الشاب على رجليه ، وقال : الحمد لله الذي اختص بلدنا بهذا الشيخ الفاضل ، ثم قال : اللهم أبقه لنا واحرزه للمسلمين ، فلقد انتفع به شبابنا وحظي به شيوخنا ، ليس في بلدنا آخر مثله .  

وجاء في (المواعظ والمجالس) القصة التالية :
مرّ إبراهيم بن أدهم وهو من أعلام الزهد في عصره بسكران على قارعة الطريق ، فذهب إليه وقعد عند رأسه ، وجعل ينظر إليه ويبكي ، ويقول : يا ليت شعري بأي ذنب أصابتك هذه الفتنة ؟ ثم وضع رأسه في حجره ومسح وجهه ، ثم دعا بماء فغسل وجهه وفمه ، ثم مضى وتركه ، فلما أفاق أُخبر بذلك ، فخجل السكران وندم وتاب إلى الله عزّ وجلَّ ، واتجه إلى إبراهيم وعاهده أن لا يعود إلى معصية أبدا ، فرأى إبراهيم في منامه كأن قائلا يقول له : أنت طهْرَّت فمه لأجلنا ، ونحن طهرنا قلبك لأجلك .

رجـل من أهـل الجنـة

رجـل من أهـل الجنـة

سمعت أحدهم يقول شيئا أثار في نفسي شجونا ، قال :
يبيت الأمريكي ليله وهو يحلم : كم سيربح في اليوم التالي ، وكم سيوفر في نهاية الأسبوع ، وكم يحتاج ليصير مليونيرا .  
ويبيت الأوروبي وهو يحلم :  أين سيقضى أمسية الغد ، وأين سيقضي إجازة نهاية الأسبوع ، وإلى أي بلد سيسافر في الإجازة السنوية   .  
ويبيت الصيني وهو يحلم : ماذا سيعمل في اليوم التالي ، وكم سينتج في نهاية الأسبوع  ، وكيف سيسيطر على السوق العالمي في العرض السنوي .
ويبيت الياباني وهو يحلم : ماذا سيخترع غدا ، وكيف سيطور ما اخترعه بالأمس ، وكيف سيدهش العالم بصغر حجم اختراعه في نهاية العام  .
أما العربي فيبيت ليله وهو  يحلم : كيف سيغيظ جاره في اليوم التالي ، وكيف سيقهر أهل حارته في الأسبوع القادم ، وكيف (سيماحك) أهل بلده في نهاية العام.  
يسمع المرء قولا يذهب عنه صفحا لأن لا أصل له ولا حقيقة ، فيكون من الذين يمرون باللغو كراما ، ويسمع قولا يثير فيه مواجع لأن فيه شيئا من الواقع الذي لا يحب الناس الاعتراف به جهرا ، ويحبون لو ظلّ بعيدا عن الجرح المدفون تحت قشرة الدم الجافة .
فذهبت أبحث في دفاتر أمتنا العتيقة عن تعزية  أمام هذا الذي يبدو حقيقة .
عن أنس بن مالك قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله r قال : " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنّة " . فطلع رجل من الأنصار تنطُف لحيته من وضوئه ، وقد علّق نعليه في يده الشمال  ، حتى إذا كان الغد قال رسول الله r مثل ذلك ، فطلع على ترتيبه ، فلما كان اليوم الثالث ، قال النبي مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى ، قال فثار عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيت (غاضبت )  أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليالٍ ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تنحلُّ يميني فعلت .
فبات عبد الله ليلته عند الرجل  ، فلم يقم الرجل تلك الليلة ، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبره حتى قام مع الفجر ، فأسبغ الوضوء وأتمه ثم صلى المكتوبة وأصبح مفطرا ، قال ابن عمرو : فرافقته ثلاث ليالٍ وأيامهن لا يزيد على ذلك ، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مضت الليالي الثلاث كدت أحتقر عمله ، فقلت له : لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ، ولكني سمعت رسول الله r قال ثلاث مرات في ثلاثة مجالس : يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ، فطلعت أنت ،في أولئك المرات الثلاث ، فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك ، فأقتدي بك لأنال ما نلت ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله r ؟ فقال : ما هو إلا الذي رأيت . قال : فلما رأيت ذلك انصرفت فدعا بي حين وليت ، فقال : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أحمل في نفسي على أحد من المسلمين غُشًا ولا حسدًا إلى ما أعطاه الله إياه ، وفي كنز العمال  : ولا أنوي له شرا ، ولا أقوله . قال : قلت : هذا الذي بلغ بك ما لا أطيق .
وحدث أن شتم رجل ابن عباس رضي الله عنه ، فقال ابن عباس :
" انك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال : إني آتي على الآية من كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم ، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يحكم بالعدل فأفرح به ولعلي لا أتقاضي إليه أبدا ، وإني لأسمع أن الغيث أصاب بلدا من بلاد المسلمين فأفرح به وما لي به من سائمة " .

التوبة الكاذبة وسوء الخاتمة

التوبة الكاذبة وسوء الخاتمة

 بعض الناس دينهم مثل دين الحمّالين ، إذا رَفَعَ الحملَ على ظهره قال : يا الله ، يا رب ، وإذا مشى بالحمل قال : يا قوي ،  يا معين ، وإذا وضع الحمل عن ظهره فسق وكفر ولعن القدر .
مثل هذا سماه الله تعالى في كتابه العزيز : ( الختّـار الكَفور )   وتجد فيما تجد من الناس عجبا ، تراه يوما مواظبا على الصلوات ، يسارع لتلبية نداء الله ، فتسأل عن الخبر ، فيقال : ستجرى له بعد أيام عملية جراحية ،  ثم تراه بعد الشفاء  قد ترك الصلاة وخاض في الدنيا مع الخائضين ، و إذا ما مات له قريب صلى وصام ، وإذا طال العهد تكاسل وغفل ، وهكذا ، يؤمن ثم يكفر ، ثم يؤمن ثم يكفر .
قال منصور بن عمار رحمه الله  :
كان لي صديق مسرف على نفسه ، ثمّ تاب ، وكنت أراه كثير العبادة والتهجد ، ففقدته أياما ، فقيل لي : هو مريض ، فأتيت إلى داره  ، فخرجت لي ابنته ، فقالت : من تريد ؟ قلت : فلانا . فاستأذنت لي ثمّ دخلت فوجدته في وسط الدار ، وهو مضطجع على فراشه ، وقد اسودّ  وجهه وازرقت عيناه ، وغلُظت شفتاه ، فقلت له وأنا خائف منه : يا أخي ، أكثر من قول لا إله إلا الله ، ففتح عينيه ونظر إلي شزرا ، وغشي عليه ، فقلت له ثانيا : يا أخي أكثر من قول لا إله إلا الله ، ثمّ ثالثا ، ففتح عينيه وقال : يا أخي منصور ، هذه كلمة حيل بيني وبينها . فقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ثمّ قلت له : يا أخي ، وأين تلك الصلاة والتهجد والقيام ؟!فقال : كان ذلك لغير الله ، وكانت توبتي كاذبة ، إنما كنت أفعل ذلك ليقال عني وأذكر به ، وكنت أفعل ذلك رياء الناس ، فإذا خلوت إلى نفسي ، أغلقت الباب ، وأرخيت الستور وشربت الخمور ، وبارزت ربي بالمعاصي ، ودمت على ذلك مدّة فأصابني مرض ، وأشرفت على الهلاك ، فقلت لابنتي الصغيرة هذه : ناوليني المصحف ، وقلت : اللهم بحق هذا القرآن العظيم إلا ما شافيتني ، وأنا لا أعود إلى ذنب أبدا ، ففرّج الله عني .
فلمّا شفيت عدت إلى ما كنت عليه من اللهو والملذات ، وأنساني الشيطان العهد الذي كان بيني وبين ربي، فبقيت على ذلك مدّة من الزمان ، فمرضت مرضا أشرفت به على الموت ، فدعوت أهلي فأخرجوني إلى وسط الدار على عادتي ثم دعوت بالمصحف فقرأت فيه ، ثم رفعته ، وقلت : اللهم بحرمة ما في هذا المصحف الكريم من كلامك إلا فرجت عني ، فاستجاب الله منِّي وفرَّج عني ، ثمّ عُدت إلى ما كنت عليه من اللهو فوقعت في هذا المرض ، فأمرت أهلي فأخرجوني إلى وسط الدار كما تراني ، ثمّ دعوت بالمصحف لأقرأ فيه فلم يتبين لي حرف واحد ، فعلمت أن الله سبحانه وتعالى غضب عليّ ، فرفعت رأسي إلى السماء ، وقلت : اللهم بحرمة هذا المصحف ، إلا ما فرجت عني ، يا جبار السماوات والأرض .
قال منصور بن عمار : فو  الله ما خرجت من عنده إلا وعيني تسكب العبرات ، فما وصلت إلى الباب ، حتى قيل لي : إنه قد مات .
  يقول الله تعالى في كتابه الكريم : ]إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [
ومن الشعر :
تتوب عن الذنوب إذا مرضتا
فكم كربة نجاك منها
أمـا تخشـى بأن ـأتي المنــايا



وترجع للذنوب إذا برئتا
وكم كشف البلاء إذا بُليتا
وأنت عـلى الخطايـا قد وَهيتا

من عجائب التـائبين

من عجائب التـائبين

  مالك بن دينار البصري ، ممن تاب الله عليهم ، بدأ حياته شرطيا مسرفا على نفسه يظلم الناس ويشرب الخمر ، ولما تاب الله عليه انصرف للعلم والزهد ، يأكل من كسب يده ، ويكتب المصاحف بالأجرة ، توفي بالبصرة سنة 131هـ ، وله مواعظ ومواقف مشهودة ، ومن طريف قصصه ما ذُكر في كتاب " نزهة المجالس للصفوري الشافعي :270 " :  
قال مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ :
" خرجت إلى الحج فرأيت الناس على عرفات ، فقلت :
 ليت شعري مَنْ المقبول منهم فأهنيه ، ومن المردود منهم فأعزيه ؟!
فرأيت في المنام قائلا يقول : قد غفر الله للقوم أجمعين إلا محمد بن هارون البلخي ، فقد ردَّ الله عليه حجّه . فلما أصبحت أتيت ركب خراسان ، فقلت : أفيكم البلخيون ؟
قالوا : نعم .
 فأتيتهم فسألتهم عن محمد بن هارون البلخي .
فقالوا : سألت عن رجل زاهد عابد ، اطلبه في خراب مكة .
 فأتيته فوجدته في خربة ويده في عنقه والقيد في رجليه ، وهو يصلي ، فلما رآني قال : ـ منْ أنت ؟
قلت : مالك بن دينار .
 قال : لعلك رأيت في المنام ؟
قلت : نعم .
 قال : في كلِّ عام يرى رجل صالح مثل ما رأيت .
 فقلت : ما السبب ؟
 قال : كنت أشرب الخمر ، فشربته في أول ليلة في رمضان ، فزجرتني أمي فأخذتها ووضعتها في التنور ، فلما أفقت من سُكري أخبرتني زوجتي بذلك ، فقطعت يدي بنفسي وقيدت رِجلي ، وفي كلِّ عامٍ أحجُّ ، وأقول : يا فارج الهمِّ ، ويا كاشف الغمَّ ، فرِّج همِّي ، واكشف غمِّي ، وارضَ عن أمّي .
وأعتقت ، بعد ذلك ، ستة وعشرين عبدا  وستاً وعشرين جارية .
قال مالك : فقلت له : قد كِدْتَ تحرق الأرض ومن عليها بنارك . وتركته .
ورأيت في تلك الليلة في المنام النبي r  ، وقال لي :
ـ  يا مالك ، لا تُقْنِط الناس من رحمة الله تعالى ، قد اطلع الله تعالى على محمد بن هارون ، واستجاب دعوته ، وأقال عثرته ، فأخبره أنه يمكث في النار ثلاثة أيام من أيام الدنيا ، ثم يلقى الله الرحمة في قلب أمه فتستوهبه من الله تعالى فيهبه لها فيدخلان الجنّة جميعا .
قال مالك : فأخبرته بذلك ، ففاضت روحه في الحال ، وصليت على جنازته رحمه الله.

وجاء في اليواقيت الجوزية :
" التوبة الصادقة كيمياء السعادة ، إذا وضعت منها حبة صافية على جبال من أكدار الذنوب ، دكتها كهيبة التجلّي قبل المباشرة ، فصارت كحلاً مصلحاً لأحداق البصائر.
ربَّ ذنبٍ أدخل صاحبه الجنّة ، وإذا صدق التائب قُلبت الأمَّارة مطمئنة " .
] قُلْ يَا عِبَادِيْ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفِسِهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الّلهِ إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُبَ جّميِعَاً [
وفي الشعر  :
قُبُـورنا تُبْـنى ومـا تُبْـنَا        يا ليتنا تُبْـنَا قَبْلَ أنْ تُبْنى
  

جنـــاحـــا المســـــلم

جنـــاحـــا المســـــلم

 أيها الفاني المغرور ، أتحب أن تتشبه بأمة الطيور التي تطير بجناحيها ، أم أنت مولع بأمة الدوابِّ التي تزحف على بطنها أو تمشي على أربع ؟! والله تعالى يقول : ]ومَا مِنْ دآبّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطيِرُ بجناحيه إلا أُمَمٌ أمْثَالَكُمْ [ .
 يطير الطائر بجناحين فيرتفعَ في السماء ، ويحلق بعيدا في الأجواء ، فتغبِطه دواب الأرض التي تزحف نحو الجحور ، وقد خاب من دساها  ، والمسلم يطلب جناحين ليسمو بنفسه في ملكوت الله تعالى ، ويحرر نفسه من أدران الدنيا ، وشهوات النفس ، راجيا أن يحلق مع الملائكة أولي الأجنحة في ملكوت الله ،  قاصدا الوصول إلى الجنة ، وقد أفلح من زكاها . 
فما هما جناحا المسلم اللذان بهما يزكِّي نفسه لتعلو وتسمو لعلَّها تصل إلى ما أعده لها الله تعالى ؟!
إنهما صيام النهار وقيام الليل .
قال إسحاق بن سويد عن العُبَّاد : كانوا يرون السياحة : صوم النهار وقيام الليل .
وقال الرقاشي : بطول التهجد تقرّ عيون العابدين ، وبطول الظمأ تفرح قلوبهم عند لقاء رب العالمين .
وذكر ابن الجوزي أن رجلا ناحل الجسم دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، فقال له عمر : مالك هكذا ؟ فقال الرجل : ذقت حلاوة الدنيا فرأيتها مرارة ، فاسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري .
وقال وهب بن منبه : قيام الليل يشرف به الوضيع ، ويُعز به الذليل ، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات ، وليس للمؤمن راحة دون دخول الجنّة .
وفي حديث رواه الحاكم في المستدرك ، وأبو يعلى في مسنده عن أبي أمامة ، حدثَ رجاء بن حيوة عن أبي أمامة ،  قال :
 أنشأ رسول الله r عزوا فأتيته فقلت : يا رسول الله ، أدع لي بالشهادة . فقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم سلّمهم وغنِّمهم .
فغزونا فسلِمنا وغنمنا . ثم أنشأ رسول الله r غزوا آخر ، فقلت : يا رسول الله ، أدع لي بالشهادة . فقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم سلمهم وغنمهم " .  فغزونا فسلمنا وغنمنا . ثم أنشأ رسول الله r غزوا ثالثا ، فقلت : يا رسول الله ، إني أتيتك مرتين تدعو لي بالشهادة فقلت : اللهم سلمهم وغنمهم ، فغزونا فسلمنا وغنمنا .ثم أتيته بعد ذلك في الرابعة فقلت : يا رسول الله ، مرني بعمل آخذه عنك ينفعني الله به ؟
قال عليه الصلاة والسلام : " عليك بالصوم فإنه لا مثيل له " .
فكان أبو إمامة وامرأته وخادمه لا يلقون إلا صياما ، فإذا رأى نارا أو دخانا في منزلهم عرفوا أنهم اعتراهم ضيف . ثم أتيته بعد ذلك فقلت : يا رسول الله ، إنك أمرتني بأمر أرجو أن يكون الله قد نفعني به ، فمرني بعمل آخر ينفعني الله به . قال r  :
ـ اعلم أنك لن تسجد لله سجدة إلا رفع لك بها درجة ، وحطّ عنك بها خطيئة
وقال الرسول r لأبي ذر : " يا أبا ذر ، لو أردت سفراً أعددت له عدة ، فكيف سفر يوم القيامة ؟ ألا أنبئك يا أبا ذر ، ما ينفعك ذلك اليوم ؟ قال : بلى ، بأبي وأمي . قال r : صم يوما شديد الحر ليوم النشور ، وصلِّ ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور ، وحج حجة لعظائم الأمور ، وتصدق بصدقة على مسكين ، أو كلمة حق تقولها ، أو كلمة شر تسكت عنها .

في حبِّ الرســول

في حبِّ الرســول

   قد يمرُّ الرجل على شخص يعرفه أدنى المعرفة ، وليس بينهما خصام فيُلقي عليه السلام . وقد يمرّ الرجل على شخص يعرفه أشد المعرفة ، وبينهما عداوة فلا يُلقي عليه السلام . فهل إلقاء السلام دليل على المعرفة أم على المحبة ؟!
وتمرّ على رجل فاضل ذي مكانة تعرفه ولا يعرفك ، فتحييه ، فيرد التحية ، فهل السلام هنا دليل معرفة أم دليل تعظيم وتقدير  ؟!
وتصادف شخصا فتسأله عن بلده ، فتقول أعرف فيها فلان ، له علي أفضال ،كيف هو ؟  فيقول لك خير الناس ، فترسل له تحية وسلاما ، فهل سلامك دليل معرفة أم برهان عرفان لصاحب فضل ؟!
وكذا كان حال المحبين والعشاق في الأشعار ،  فإذا مرّ بهم نسيم رقيق العطر ، ذكَّرهم بالمحبوب ،  فيُحملون النسيم السلام :
نسيم الصَّبا إن زرت أرض أحبتي          فخُصّـــم منّـي بكلِّ سـلامِ
فالسلام بين الناس رسالة حب ، واحترام ، وتقدير ، واعتراف بالجميل ، فكيف تقول أنك مسلم تحبُّ رسول الله r، ويُذكر بين يديك فلا تسلّم عليه ؟!!
لكي نعتاد  السلام على الرسول r  كلما ذُكر ، علينا أن نحب الرسول ، والمحبة كما يقول الغزالي ثمرة المعرفة ، فتنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها .

ومن قصص حبهم للرسولr   :
بعث الرسول r جيشا فيه ابن رواحة وخالد ، فلما صافُّوا المشركين ، أقبل رجل من المشركين يسبُّ رسول الله r فقال رجل من المسلمين : أنا فلان ابن فلانة ، فسبَّني وسُبَّ أمي وكفَّ عن سَبِّ رسول الله . فلم يزده ذلك إلا إغراء ، فأعاد مثل ذلك ، وأعاد الرجل مثل ذلك ، فقال المسلم : لأن قلتَ ذلك لأرحِّلنَّك بسيفي ، فعاد يسبُّ،  فحمل المسلم عليه فولّى الرجل مُدبرا ، فأتبعه حتى خرق صف المشركين وضربه بسيفه ، فأحاط به المشركون فقتلوه .    

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفضل أسامة بن زيد في فرض العطاء على ولده عبد الله بن عمر ، فلم يزلْ الناس بعبد الله حتى كلّم عمر ، فقال : أتفضلُّ عليَّ مَنْ ليس بأفضلَ منِّي ، ففرضت له ألفين وفرضت لي ألفاً وخمسمائة ولم يسبقني إلى شيء ؟ فقال عمر : فعلت ذلك لأن زيد بن حارثة كان أحبَّ إلى الرسول من عمر بن الخطاب ، ولأن أسامة بن زيد كان أحبّ للرسول من عبد الله بن عمر .

وجاء في البداية والنهاية لابن كثير : حينما رُفع خُبيب بن عديٍّ رضي الله عنه على الخشبة ليُصْلب ناداه نفرٌ من قريش يناشدونه : أتحبُّ أن محمدا مكانك ؟ فقال : لا والله العظيم ، ما أحبُّ أن يفديني بشوكة يُشاكها في قدمه ، فضحكوا منه .
وكان الإمام مالك إذا أراد أن يُحدِّث عن رسول الله r توضأ وجلس على صدر فراشه ، وسرَّح لحيته ، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ، ثمّ حدّث ، فقيل له في ذلك ، فقال : أحبُّ أن أعظّم حديث رسول الله . وكان لا يركب في المدينة مع كِبر سنه وضعفه ، ويقول : لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله r مدفونة .

وفي بداية الألفية الثالثة أجرت إحدى الشركات المرتبطة بشركة مايكروسوفت العالمية على الشبكة العالمية استبيانا حول الشخصيات القيادية التي أثرت في مجرى الألفية الثانية تحت عنوان " شخصيات صنعت الألفية الثانية " ، وكان عدد المصوتين أكثر من 140 ألف شخص  ، فحصل على المرتبة الأولى : محمد r ( صناعة القائد : ص 184 ) .

أويــس القـــرني

أويــس القـــرني

مات الأب ، فجاء الحكيم معزِّيـاً  :
ـ يا بني ، لقد مات مَنْ كان يُكرمك الناس مِن أجله ، فأصلح أمرك مع الناس  ليكرمك الناس  .
وماتت الأم ، فجاء الحكيم ناصحـاً :
ـ  يا بني ، لقد ماتت مَنْ كانت تُكرمكَ الملائكة من أجلها ، فأصلح أمرك مع الله لتكرمك الملائكة .
ومات لأحد الصالحين ولد له ، فشوهد قليل الحزن عليه ، وبعد حين ماتت أمه فشوهد شديد الحزن كثير الجزع عليها ، فقيل له في ذلك فقال :
ـ حزني على ابني من أجله ، وحزني على أمي من  أجلي ، فقد انقطع بموتها أيسر سُبُلي إلى الجنة .
وهذا أويس القرني ، أدرك حياة النبي r و أسلم دون أن يراه .
 يبرُّ أمه ، فيرفع الله تعالى درجته فيصير مُستجاب الدعوة ، ويعرف بخبره عمر بن الخطاب المُبَشر بالجنة ، الذي عزّ الإسلام به ، والذي كان ينظر بنور الله ، مقيم العدل في الأرض ، قاهر الفرس والروم ، فينتظره عاما بعد عام ، ليطلب منه أن يستغفر له ،  لأنه رفيع الدرجة عند الله ، كما رفع درجة أكرم خلقه النبي r  أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، وهذا عمر يطلب من أويس أن يستغفر له .
الأبرار يعرفون الأبرار فيطلبونهم ، ويعرفون لهم قدرهم ، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا صاحب فضل .
تحدث الرسول r عن أويس القرني دون أن يراه ، فقال : إنه من أهل اليمن ، وإنه من بلدة قرن ، ومن قبيلة مراد ، مات أبوه وهو يعيش مع أمه وهو بارٌّ بها ، مرض بالبرص فدعا الله تعالى فشفاه ، وبقي من آثاره مثل الدرهم في ذراعيه ، وإنه لسيد التابعين ، ثم قال لعمر بن الخطاب : " إن استطعت أن يستغفر لك فافعل " . فكان عمر حين أصبح أميرا للمؤمنين يسأل حجاج بيت الله الحرام في مواسم الحج : أمنكم أويس القرني؟ فيقولون : لا . فيقول : كيف تركتموه ؟ فيقولون ـ دون أن يعرفوه ـ : تركناه قليل المتاع ، رثَّ الثياب . فيقول لهم : ويحكم لقد حدّث عنه رسول الله : إن استطعتم أن يستغفر لكم فافعلوا . وكان عمر في كل عام ينتظر أويسا .
وتصادف مرّة أن جاء مع حجاج اليمن ، فلقيه عمر ، فأراد أن يستوثق منه . فسأله : ما اسمك؟ قال : أويس . قال : من أي بلاد اليمن ؟ قال : من قرن . قال : من أي قبيلة منها ؟ قال : من مراد . قال : كيف أبوك ؟ قال : أما أبي فقد مات ولي أم تعيش معي ، قال : وكيف حال أمك ؟ قال أويس : أرجو أن أكون بها بارّا . قال عمر : هل مرضتَ قبل ذلك ؟ قال : نعم ، مرضت بالبرص فدعوت الله فشفاني . قال : هل بقي من أثره من شيء ؟ قال : نعم ، في ذراعي مثل الدرهم . وكشف له عن ذراعه ، فلما رأى عمر ذلك اعتنقه ، وقال : أنت الذي حدّث عنك رسول الله r فاستغفر لي . فقال : أنا أستغفر لك يا أمير المؤمنين ؟! قال : نعم . وما زال عمر يلح عليه حتى استغفر له . ثم سأل عمر اويسا عن وجهته بعد موسم الحج ، فقال : إني ذاهب إلى أهل من مراد في العراق . قال عمر : أكتب إلى والي العراق عنك . قال : أقسمت عليك يا أمير المؤمنين ، ألا تفعل ، دعني أسير في غبراء الناس لا يؤبه لي . ( حكايات الصالحين : 219)
وروى أبو نعيم في الحلية ، عن الرسول r : " يدخل الجنة بشفاعة أويس مثل ربيعة ومُضر " .

ورقـة أم جـــذع

ورقـة أم جـــذع
أم هبــــاء منثـــور !     

  في ليلة مباركة من ليالي هذا الشهر الكريم نزل الوحي الكريم على الرسول الكريم  r في غار حراء ، فأخذه وغطّه ، وعلَّمه :] اقْرَأْ باسْمِ َربِّكَ الَّذيْ خَلَق[ ، فعاد الرسول إلى مكة يرتعد خوفا من هول ما رأى ، فبث خوفه لخديجة رضي الله عنها ، فأخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل أعلم أهل مكة ، ولما قصَّ الرسول  rعليه الخبر ، قال له ورقة:
"  هذا الناموس الذي نزَّله الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك " . سبحان الله ، اسمه ورقة ، ويتمنى أن يكون جذعاً في شجرة الإسلام المباركة !!  وتمرُّ أيام قلائل ويموت ورقة بن نوفل ، وتمرًّ السنون ويهاجر محمد r إلى المدينة المنورة ، ويبني مسجدا ، ويجعل منبره جذع نخلة يقف عليه ، وللجذع خبر يرويه الثقات يذكرنا بأمنية ورقة بن نوفل . فقال جابر بن عبد الله : "كان المسجد مسقوفا
على جذوع النخل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العِشار " . وفي رواية أنس : "حتى ارتجَّ المسجد لخواره " . وفي رواية سهل: " وكَثُر بكاء الناس لمِـا رأوه به". وفي رواية أخرى " وانشق حتى جاء النبي ـ
 rـ فوضع يده عليه فسكت، فقال عليه الصلاة والسلام : إن هذا بكى لما فقد من الذكر" .وزاد غيره : والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة ، تحزُّنـًا على رسول الله، فأمر به فدُفن تحت المنبر، وهذا الحديث أخرجه أهل الصحة ورواه من الصحابة الكثيرون .
جذع النخلة يبكي لفراق الحبيب المصطفى له ، لأنه ليس قطعة من خشب ، بل أُمنية عالِم مكة وحكيمها ، وحظي الجذع بما لم يحظ به ورقة ، فحق للورقة التمني وحقّ للجذع البكاء.
ويُقبر الجذع تحت المنبر الجديد الذي جُعِلت له ثلاث عتبات ، وذات يوم صعد الرسول
r المنبر ، وسمعه الصحابة يقول عند كلّ عتبة : آمين . وجاء خبر ذلك في حديث رواه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الشيخ الألباني ، عن  أبي هريرة  :
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رقي المنبر ، فقال : آمِينَ ، آمين ، آمين ، فقيل له : يا رسول الله ، ما كُنْتَ تَصنع هذا ؟ ! فقال : قال لي جبريل : أرغم الله أنف عبد أو بَعُدَ دخل رمضان فلم يُغفر له ، فقلت : آمين . ثم قال : رَغِمَ أنفُ عبد أو بعد أدرك  والديه أو أحدَهما ولم يدخله الجنة ، فقلت : آمين . ثم قال : رغم أنف عبد أو بعد ، ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليك . فقلت : آمين .
ثلاثُ عتبات مباركات ينتظرن ثلاثَ خطوات ، أمام بوابة هذا الشهر الفضيل تُفضي كلُّ عتبة منها إلى خير دار .
خطوة صبر يجتاز المسلم بها عتبة رمضان ليدخل باب الريان  .
وخطوة صدقٍ يعبر بها المسلم عتبة برِّ الوالدين ليدخل باب الرحمة .
وخطوة محبة يمشيها المسلم ليعبر بها عتبة الصلاة على الرسول الكريم  ليدخل باب المحبة.
وهذا رمضان قد حطّ رحاله في الديار ، جاء يحملنا إلى روضة ربِّ غفّار ،  فتزودوا منه قبل رحيله ، فقد جمع الشهر الكريم أدواء القلب الخمسة ، تلك الأدواء التي جمعها الشيخ زين الدين المليباري في قوله شعرا :
دواء القلب خمسة : قراءة القرآن بتدبر المعنى وللبطن الخلا
 وقيام ليل ، وتضرع بالسحر ، ومجالسة الصالحين الفُضلا
.