الاثنين، 25 فبراير 2013

لا مِســــــــــــــــاس

لا مِســــــــــــــــاس

  قالوا الإنسان حيوان اجتماعي ، وقالوا الإنسان حيوان ناطق ، وقالوا الإنسان حيوان مفكِّر ، ولا ريب أن غرضهم القول أن الإنسان يحتاج لغيره من بني جنسه ، لا يحيا فردا مهما ابتدع من أساليب عزلة ، لذا فإن عزل هذا الإنسان في بسجن أو عزله بمقاطعته من بني جنسه من أشد العقوبات ، لذا بقي سلاح المقاطعة عبر التاريخ من الأسلحة الفعالّة في عقاب الإنسان  .
والله سبحانه وتعالى شرّع عقوبة المقاطعة ، فالرجل يهجر زوجه الناشز ، وفي قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا صورة واضحة .  
خرج الرسول r إلى غزوة تبوك وقد أعلن النفير العام ، فخرج المسلمون وتخلف ثلاثة لا عذر لهم هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن ربيع العمري ، وهلال بن أمية الواقفي ، والثلاثة ممن يُشهد لهم بالصلاح ، فأمر الرسول r بمقاطعتهم ، ونهى الناس عن كلامهم ، واستمرت المقاطعة خمسين ليلة ، ثم أنزل الله قبول توبتهم ، وهذه مقاطعة عامة مؤقتة .
أما لا مساس فهي المقاطعة التي لم يُذكر لها شبيها .
غادر موسى عليه السلام قومه وذهب لميقات ربه ، وقال لقومه أنه لن يغيب عنهم أكثر من ثلاثين ليلة ، وشاء الله أن يُتمَّها بعشر ، فلما طالت غيبته عن قومه بعد الثلاثين استبطأوه ، وظنّوا أن موسى أخلفهم وعده ، فعندئذ تحركت في السامري الوثنية القديمة ، فجمع حلي نساء بني إسرائيل وألقاها في النار ، وسبك منها عجلا له خوار ، وأمرهم بعبادته .
عاد موسى عليه السلام فوجد قومه يعبدون العجل من دون الله ، فغضب ، وأخذ بشعر أخيه هارون يجذبه من رأسه ولحيته ، أما السامري فكان عقابه ] فاذهب فإن لك في الحياة أنْ تقولَ لا مِساس [ طه : 93 .
" لا مساس " عقوبة الله تعالى للسّامري ، وإذا أردتَ أن تتعرف على الواقع الأليم لهذه العقوبة ، فخيل رجلا يقول لكل ما يصادفه وقبل أن يقترب منه : لا تمسني ولا أمسك ، فلا يصافح صديقا ولا يمسّ شيئا يعود له ، ولا يمسّ زوجة ولا طفلا ، لا يمس خضار البائع ، ولا منتجات الصانع ، ويمشى منبوذا بلا أصحاب ، مطرودا عن الأبواب ، مريضا أجرب بلا صديق ، بلا حبيب أو رفيق ، تلك عقوبة تشقُّ على الكلاب والبراغيث والذباب ، فما بالك بمَنْ كرَّمه على سائر المخلوقات ، وسخر له ما في الأرض والسماوات ؟!
في هذين الخبرين دعوة لمقاطعة العاصي ، تبدأ من الهجر لأيام وتنتهي بالهجر التام ، لأن لا سواء بين المعصية والتوبة ، ولأن الجسم السليم يرفض المرض ويحتج عليه بمقاطعة النوم والراحة ، ولكن إذا ما وصلنا لمرحلة نستمرئ فيها المعصية ونقبلها فذلك من علامات مرض القلب ، المكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي حديث ابن مسعود  عن الرسول r أنه قال : " إنّ منْ كان قبلكم ، كانوا إذا عمل العامل منهم بالخطيئة ، نهاهُ الناهي تعذيرا ، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يرهُ على خطيئته بالأمس ، فلما رأى الله ـ عزّ وجلّ ـ ضرب بقلوب بعضهم على بعض .."

كــم ثمـــن صــــلاتك ؟

كــم ثمـــن صــــلاتك ؟

لو تجرأنا بالسؤال : كم دينارا ثمن إيمانك بالله ؟ أو كم من المال لو أعطيت تكفر بالله ؟ أو أي مبلغ من المال لو أعطيته راودتك نفسك بالكفر ؟ سؤال لا يخلو من الوقاحة ، لأننا تجرأنا ووضعنا المال أمام المبدأ والضمير والعقيدة ، ولكنه جد واقعي ، فما دام الإيمان يزيد وينقص فهو يغلو ويرخص ، ولكن الناس لا يحبون مثل هذه الأسئلة ، رغم أن الكثيرين يبيعون دينهم بغرض تافه من أغراض الدنيا ، وكثير من الآيات تتحدث عن الذين يشرون أنفسهم ويشترونها ، وجاءت يشرون في باب المدح في القرآن ، وجاءت يشترون في باب الذَّم بصورة عامة .
سمعت في أحد البرامج الدينية هذه القصة الطريفة :
كان شيخ يدرس في أحد المساجد في العاصمة السويدية ، ودخل رجل المسجد ، وصار  ينظر في أنحاء المسجد ، ولم يصلّ ركعتين ، فعرف الشيخ أن الرجل مسلم تارك للصلاة قادته رجلا الفضول للمسجد أو جاء يسأل عن أحد الناس ، فدعاه الشيخ للجلوس في الحلقة وبعد  التعارف ، غيّر الشيخ مسار الدرس قاصدا إيصال موعظة إلى  الجالس الجديد ، فقال : في هذه الدنيا لكل شيء ثمن ، فبعض الناس لا يبيع أمانته بدينار ، ولكنه قد يبيعها بمليون دينار ، فأمانة الأول ثمنها دينار ، وأمانة الثاني ثمنها مليون دينار . والصلاة أيضا لها ثمن ، وأسألكم بحق الله تعالى عليكم كم ثمن صلاة كل منكم ؟ فأجيبوا ولا تدلسوا .
 تردد الجالسون واستنكروا السؤال ، وبدا منهم ما يدلُّ على ذلك ، أدرك الشيخ ذهول المفاجأة وقال لهم : أنا إمام المسجد وأعرف أن لصلاتي ثمنا ، وإذا فتنت لا آمن على نفسي كما كان الفاروق عمر لا يأمن على نفسه من جارية سوداء رأسها كالزبيبة ، وأجعل السؤال : عند أي مبلغ من المال تراودك نفسك بترك الصلاة ؟ ولصلاتي ثمن أخبركم عنه أخيرا كي لا تقيسوا عليه . تشجع أحد الحاضرين وقال : قد يوسوس لي الشيطان بعشرة آلاف ، وقال الثاني : بعشرين ، وقال الثالث : بنصف مليون ، وبخمسة ملايين .. وهكذا حتى وصل إلى الضيف الجديد فقال له : وأنت يا أخي كم ثمن صلاتك ؟ فتردد الضيف ثم قال : أنا يا شيخ للأسف لا أصلي ، فقال الشيخ : كيف تترك كنزا عظيما يساوي الآلاف والملايين بلا مقابل !!
فبهت الجالس ولم يعرف جوابا ، وحفر السؤال في قلبه إشارة مرور تهديه إلى الصراط المستقيم . 
هل نستطيع بعد ذلك أن نقول :
التاجر الذي تفوته صلاة الجماعة ليربح قرشا ، أن الصلاة في جماعة عنده تساوي قرشا؟
وأن الشاب الذي يترك جلسة القرآن حبا في السمر والسهر ،أن جلسة القرآن عنده تساوي نكتة أو قصة سخيفة  ؟
وأن المسلم الذي تفوته صلاة الفجر ليكسب ساعة نوم أن صلاة الفجر عنده تساوي غفوة قصيرة ؟
وأن المسلم الذي لا يصوم لأنه مُدخن ولا يستغني عن السيجارة ، أن شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن يساوي عنده سيجارة ؟
إن جاز ذلك ، فهذا حساب يسير ولكنه يوم الحساب عسير ، قال تعالى :
] إِنَّ الَّذِيِنَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدَ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنَاً قَليلاً أُوْلئِكَ لاَ خَلقَ لَهُمْ في الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلَّمَهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظْرُ إِليْهِم يَومَ القِيامةِ ولاَ يُزَكْيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أليمُُ  [  (آل عمران:77)

الرياح الربانية اليابانية

الرياح الربانية اليابانية

يقول أحد الطيارين : لا يكون الطيار طيارا ناجحا حتى يوقع عقدا مع الموت . وهو بذلك يلخص حقيقة أن الرغبة في التحليق عاليا في الحياة لها ثمن عظيم يجب دفعه .
ومن أشهر فرق الطيران الحربي في العالم ما عرف بالكاميكاز ، والكاميكاز كلمة يابانية تعني الرياح الربانية ، وقصة هؤلاء الطيارين اليابانيين معروفة في الحرب العالمية الثانية ، فقد اتخذوا قرارا جماعيا للقيام بعمليات فدائية انتحارية بطائراتهم ضد سفن التحالف التي كانت تقصف بلادهم ، وتدمر مدنهم وتقتل أبناء جلدتهم ، بعض الروايات تقول أنهم كانوا الف وخمسمئة ، ويصل عددهم في روايات أخرى إلى خمسة ألاف طيار . وفي لقاء مع طيار نجا بأعجوبة ، سأله الصحفي : ما آخر كلمة كنتم تقولونها قبل الاصطدام . فقال : كنت أسمع الطيارين يصرخون : أماه . ويقول عن نفسه أنه لم يعرف له أما طوال حياته ، ولم يتعود على هذه الكلمة ، فلما اقترب من الموت صرخ باسم مغنية يابانية كانت مشهورة في تلك الأيام ، ولكن الحظ لم يحالفه ونجا من الموت بأعجوبة ، وتأسف لأن لم يهتف باسم أمه .
بعد انتهاء الحرب أقام اليابانيون متحفا لتخليد ذكرى أبطال الكاميكاز في طوكيو ، ضم المتحف صور الطيارين وبعض تركاتهم ورسائلهم ، العجيب أن الغرفة الأولى في المتحف تضم لجوار الطيار الكاميكازي صورة لامرأة وثلاثة أطفال ، بخلاف بقية الغرف ، وعند سؤال مدير المتحف عن سبب وجود هذه الصورة في الغرفة الأولى ، بجوار صورة الطيار كان العجب .
فعندما تعاهد الطيارون على القيام بعملياتهم الانتحارية الجماعية كان صاحب الغرفة الأولى متزوجا وله ثلاثة أطفال ، فطلب القائد إعفاءه من المهمة ورفض إشراكه في العمليات ، فأصيب الطيار بغم وحزن شديدين لأنه لن يستطيع القيام بالمهمة ، ورأت زوجته عظيم همِّه وكبر فجيعته ، فقررت مساعدته على تحقيق أمنيته، فقامت بدس السُّم لأولادها الثلاثة فماتوا ، ثم شربت هي السّم الرعاف فلحقت بأولادها ، فصار الطيار بلا عائلة ، وعاد إلى قائده ، وشرح له أن المانع في مشاركته في العمليات قد زال ، وقاد طيارته ، وهوى بها في بارجة بحرية أمريكية .
الكاميكاز قاموا بعمليانهم احتجاجا على استسلام إمبراطور اليابان للجنرال الأمريكي ماك آرثر ، واليابانيون معروفون بولائهم للإمبراطور لدرجة التقديس ، ولكن تمرد سرية ( طوكوطاي )  التي كان منها أبطال الكاميكاز لم يكن سببا لتشويه  تضحياتهم ، ورميهم بتهمة التخريب على الأمة اليابانية ، بل أقام لهم اليابانيون متحفا لتخليد ذكراهم ، لأنها أمة تعرف فضل الرجال حتى لو بدا عملهم تمردًا على سلطة  الإمبراطور المقدسة عندهم  .   

زيـــــــارة القبـــــــــــــور

زيـــــــارة القبـــــــــــــور

اسأل نفسك  :
عندما تمر بالمقابر هل تقف وتدعو لهم وتُقرئهم السلام أم تمرّ عنها مسرعا مرَّ الكرام ، ولا تلفت ؟ ولو سألت  : متى زرت مقبرة آخر مرّة ؟ لأجاب معظم الناس يوم جنازة فلان ، فترى الناس يعزفون عن زيارة المقابر بعد الجنائز ، ولم يكن هذا شأن الصالحين من قبل ، وديدن الزهاد الأتقياء .
ابن الجوزية في " إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان " يقول إن زيارة القبور مقصودها ثلاثة أشياء :
الأول: تَذكّر الآخرة ، والاعتبار ، والاتعاظ لقول الرسول r : " زوروا القبور ، فإنها تذكركم بالآخرة " .
الثاني : الإحسان إلى الميت ،  فلا يطول عهده به ، فيهجره ، ويتناساه ، كما إذا ترك زيارة الحيّ مدة طويلة تناساه ، فالميت أولى لأنه صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم ، فإذا زاره وأهدى إليه هدية : من دعاء ، أو صدقة فرح بها كما يفرح الحيّ .
الثالث : إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنّة ، والوقوف عند ما شرعه الرسول r فيحسن إلى نفسه والمزور .
وقال الراوندي : من تذكر الموت لها عن اللذات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات .
وجاء في الأثر : أكثروا من ذكر هادم اللذات ، فما ذُكر في قليل إلا وكثَّره ، وما ذُكر في كثير إلا وقلَّله .
عامر بن قيس كان يقول : تعزى عن الدنيا بالقرآن ، فإنه من لم يتعزّ بالقرآن تقطعت نفسه على الدنيا حسرات .
وقال ابن الجوزي :
 اعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت ، وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة .
وما يثير الحزن في النفوس أنك تجد مقابر غير المسلمين نظيفة مرتَّبة ، أما مقابر المسلمين فعشوائية كثيرة الأوساخ ، تنبت الأشواك على القبور ، فلو أخذنا بوصية الرسول الكريم وزرنا قبور الأحبة ، ورفعنا في كل مرّة أذى ، لأصلحنا من هيئة المقابر ولعمرنا قلوبنا بذكر هادم اللذات ، فهل من مبادر ؟؟

يعزّي المعزِّي ثم يمضي لشأنه
ويسلو المعزَّى في ليالٍ قليلة


ويبقى المعزَّى في أحرُّ من الجمرِ
ويبقى المعزّى به في ظلمة القبر
ِ

الشـُّــــبهة القـا تـلـــــــــــة

الشـُّــــبهة القـا تـلـــــــــــة

في السبعينيات من القرن الماضي انتشر في فلسطين وخاصة في منطقة رام الله الفكر اليساري ، ونشط طلاب الجامعات في التنظير لأفكاره ، ونشط اليساريون في ميدان العمل التطوعي ، وانتشرت هذه الظاهرة .
أذكر حادثة لا تغيب عن بالي كان لها أشد الأثر مع بساطتها في ضلالي فترة طويلة من الزمن ، فكنَّا نجمع القمامة من ساحة النادي ، ونحرق ما يمكن حرقه ، وحدث أن داعبني أحد الرفاق وقبض على يدي وراء ظهري مازحا ، فتقدم آخر وكفاه سوداوان من شحبار الحريق ، وقال مازحا :
ـ  من يمنعني من (شحبرة ) وجهك ؟
 خطرت على بالي فورا قصة الرسول r مع الرجل الكافر الذي سرق السيف المعلق على الشجرة والرسول نائم ، فقلت ببراءة الأطفال :
ـ  الله .
فما كان منه إلا أن شحبر وجهي بإحدى يديه . فكتمتها في نفسي ولم أسأل عنها ، وحاولت استنتاج ما أريد منها .
حادثة صغيرة كان لها أثر كبير على الشاب الصغير الذي يدرج نحو الثالثة عشرة من عمره ، فحفرت في قلبه حفرة شك باض فيها الشيطان وفرَّخ سنوات عدة . ومرت سنوات ، وكلما خطرت هذه القصة على بالي يغني شيطان الشك في قلبي.
 ذات مرّة وبعد التخرج من الجامعة والعمل في التعليم صحبنا الطلاب برحلة مدرسية إلى دير قرنطل في أريحا ، وصعدنا الجبل إلى دير الرهبان في أعلاه ، هناك سأل طالب بعمر القصة الراهب : لماذا سمي هذا الجبل بجبل قرنطل ؟
 فقال الراهب : قرنطل كلمة يونانية تعني التجربة ، وعلى هذا الجبل جرّب الشيطان المسيح ( عليه السلام ) فكان يقول له انظر إلى مملكة أريحا الثرية الناس فيها يأكلون أطيب الطعام ، ويشربون ألذ الشراب ، ويعيشون برخاء ، وأنت هنا صائم غذاؤك الحشائش ، لو كنت كريما عند الله ما أجاعك وأشبع الناس . ولكن المسيح عليه السلام رفض الإغراء وحافظ على صيامه .
وحدثت عن سبب التسمية لأحد الأخوة من أهل العلم ، فقال الأمر ليس كذلك ، هناك جرّب الشيطان المسيح عليه السلام بقصة أخرى رويت في غير مكان ، ومنها كتاب " أدب الدنيا والدين " :
 فقد ورد أن إبليس اللعين قال لعيسى عليه السلام :
ـ  ألست تقول أنه لا يصيبك إلا ما كتب الله لك ؟
قال : بلى  .
 قال : فارمِ نفسك من ذروة هذا الجبل ، فإنه إن يقدر لك السلامة تسلم .
 فقال عليه السلام : يا ملعون ، إن لله أن يختبر عباده ، وليس للعبد أن يختبر ربه . فكان كلامه ماء طمأنينة بارد يصب على شحبار شك وفد إلى قلبي من نار سبق وأشعلت .

ميـزان لقيـاس صـلاح الحـكام

ميـزان لقيـاس صـلاح الحـكام

 هناك مقياس بسيط للتفريق بين اللص والخادم :
 اللص يدخل البيت خالي اليدين ، ويخرج من البيت ممتلئ اليدين ، والخادم يدخل البيت ممتلئ اليدين ويخرج خالي الوفاض ، وهذا الفرق بين الحاكم اللص والحاكم الخادم ، وفي الحكمة اليونانية القديمة : اجعلوا خيركم خادمكم .
هذا رسول الله  r دخل الرسالة وهو تاجر يُصدر ويَستورد من الشام واليمن ، حتى إذا مات لم يكن في خوانه غير كسرة من رغيف من الشعير ، ذكر ابن عباس : قبض الرسول r ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود على ثلاثين صاعا شعيرا أخذها رزقا لعياله .
 وهذا أبو بكر من أثرياء قريش ،  كان غنيا ًيشترى العبيد في بداية الإسلام ، ولما مرض مرضه الذي مات فيه قال : انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت الإمارة ، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي ، فنظروا فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه ، وإذا ناضح كان يسقي بستانا له ، فبعثوا بهما إلى عمر ، فبكى عمر وقال : رحم الله أبا بكر لقد أتعب مَن بعده تعبا شديدا .
وهذا عمر بن الخطاب من بطون قريش الثرية ، في عهده يفتح الله على المسلمين البلاد ، ويسيّر إليه خزائن كسرى الفرس وقيصر الروم ومقوقس مصر ، ولما طُعِن نجده يطلب من أهله على فراش الموت أن ينظروا في ديونه ليقضوها ، فإذا بها أربعون ألف درهم .
وهذا عمر بن عبد العزيز في شبابه كان يلبس الثوب بستمائة درهم ، ولما صار خليفة جيء له بثوب ثمنه ستة دراهم ، فقال عنه هو على ما أحب لولا أن فيه لينا .
وهكذا شأن الحكام الذين غيروا التاريخ من المسلمين وغير المسلمين .
 الماهماتا غاندي بدأ حياته السياسية بعد عودته من لندن وقد تخرج في كلية الحقوق ، شابا يلبس أغلى الملابس الأوروبية لعائلة ثرية ، وبعد سنوات عاد إلى لندن مفاوضا عن الهند ، ودخل قصر برنغهام وهو حاسر الصدر ، حافي القدمين ، أم تريد أن تسمع قصة مناحيم بيغن أول من نقل الحكم في دولة يهود من اليسار إلى اليمين ، كيف تبرع بقيمة جائزة نوبل للسلام لمنظمة خيرية يهودية ، ومات في شقة مستأجرة حتى سماه بنو جلدته : ملك إسرائيل .
وبذات الوقت تجد الذين ماتوا أغنياء ماتوا صغارا لم يغيروا تاريخا ، فهذا ملك يموت قبل سنوات يقول في مذكراته أنه طلب من جده شراء دراجة فاعتذر لضيق الحال ، ولما مات كان يملك شركات طيران وشركات نقل تطوف العالم ، وهذا رئيس أحد بلادنا العربية يموت وثروته تقدر بستة مليارات دولار وثلث بلده محتلا .
الحاكم الصالح يموت فقيرا ويغيِّر التاريخ ، والحاكم الطالح يموت غنيا ولا يذكر إلا على هامش التاريخ .
هذا حاكم جعل المال تحت قدمه فرفعه المجد إلى الذرى ، وكتب سيرته بحروف من ذهب .
وهذا حاكم جعل المال فوق رأسه فوضعه الطمع تحت الثرى ، ونسي أن يكتب سيرته فالطمع لا يذكر إلا نفسه .
فهلاّ فهمنا الحكمة التي تقول : اجعلوا خيركم خادمكم .

تشــبّه بالكــرام

تشــبّه بالكــرام
      
الرسول r يقول : " من تشبه بقوم فهو منهم " ، لأن الإنسان يتشبه بمن يحب ، فيطلب رضاء المحبوب بالتشبه به ، ويحشر المرء مع من أحب ، ولو صام وقام بين الحِجر والمقام .
ابن خلدون كان يقول : المغلوب مولع بتقليد الغالب ، فالأمة المهزومة تميل إلى التشبه بالأمة الغالبة في أحوالها ، فشباب العرب بعد حرب الخليج وحرب العراق ظنّوا أن سبب غلبة الأمريكان قَصةُ شعر جنود المارينز فأخذوا يقلدونها .
والشاعر يقول :
تشبّه بالكرام إنْ لم تكن منهم        فإن التشبهَ بالكرام جميلُلأن التشبه بالكرام يجعلك منهم ، ألم تسمع بقول الرسول من تشبه بقوم فهو منهم ؟!

   المهتدي بالله أحد الخلفاء بني عباس المتأخرين ، ولي الخلافة عام 255هـ وخلع عنها بعد سنة ، كان من أحسن الخلفاء العباسيين مذهبا وأجملهم طريقة ، وأظهرهم ورعا وأكثرهم عبادة ، وكان ممن طرح الملاهي من بيت الخلافة ، وحرّم مجالس الغناء والشراب ، يحكي عنه أبو العباس بن القاسم هذه الواقعة ، فيقول( تاريخ بغداد 3/ 350)  :
" .. كنت بحضرة المهتدي عشية من العشايا ، فلما كادت الشمس تغرب ، وَثَبْتُ لأنصرف ، وكان ذلك في شهر رمضان ، فقال لي : اجلس .
فجلست ، ثمّ إن الشمس غابت ، وأذن المؤذن لصلاة المغرب ، فتقدم المهتدي فصلّى بنا ، ثم دعا بطعام فأُحضر طبق وعليه رُغف من الخبز النقيّ وفيه آنية ، في بعضها ملح ، وفي بعضها خل ، وفي بعضها زيت ، فدعاني إلى الطعام ، فابتدأت آكل معذرا ، ظانّاً أنه سيُؤتى بطعام له نيقة وفيه سعة ، فنظر   إليّ ، وقال:
ـ ألم تكُ صائما ؟
قلت : بلى .
قال : ألست عازماً على الصوم غداً ؟
قلت : كيف لا ،  وهو شهر رمضان .
فقال : كُلْ واستوفِ غداءك ، فليس هاهنا طعام غير ما ترى .
فتعجبت من قوله ، ثم قلت  والله لأخاطبنَّهُ في هذا المعنى ، فقلت :
ـ ولمَ يا أمير المؤمنين ، وقد أسبغ الله نعمه وبسط رزقه ، وكثر الخير من فضله ؟
فقال : إن الأمر على ما وصفت فالحمد لله ، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز ، وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك ، فغرت على بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله ، فأخذت نفسي بما رأيت .

في هذا الشهر الفضيل هل من يتشبّه بالحسين بن علي t ؟
جاء في (الجواهر المجموعة : 771 ) أن امرأة الحسين بن علي بعثت إليه : إنّا صنعنا لك من الطعام طيِّباً ، وصنعنا لك طِيْباً ، فانظرْ أكفاءك فأتنا بهم .
فدخل الحسين المسجد فجمع المساكين ، وانطلق بهم إليها ، ولما دخل عليها قال : أعزم عليك بما كان لي عليكَ من الحقْ أن لا تدخري طعاماً ولا طِيْباً . ففعلت ، فأطعمهم ، وكساهم ، وطيَّبهم .

عنــدما تفكـــر المعـــدة

عنــدما تفكـــر المعـــدة
يضحك الكنيف

قالوا  : قل لي ،  ماذا تقرأ ؟ لأقول لك : من أنت .
وقالوا  :  قل لي ، من تصاحب ؟  لأقول لك : من أنت .
وقالوا : قل لي ، ماذا ترى في الأحلام ؟ أقل لك من أنت .  
وليتهم قالوا : قل لي ، ماذا تأكل وكيف تأكل ؟ لأقل لك :  من أنت .
جلست يوما عند صديق في متجره قبيل الظهر بساعة ، فضَّيفني قهوة في إناء غريب الشكل، وجعل يشرح لي أن هذه القهوة فريدة من نوعها ، وأنه أحضر إبريق تحضيرها من أمريكا ، وأسهب يشرح كيفية إعدادها بالتقطير ، ثم رفع سماعة الهاتف إذ اتصلت به زوجته تسأله ماذا يريد أن يأكل اليوم ، فبدأ يعدّد أصناف الأكل ، ويقول هذا على بالي ، وهذا ليس على بالي ، وجل اهتمامه منصرف لما يقول ، وطال الحديث وأنا جالس أستمع ، وأنتظر علّ الله يهدي صاحبي لأكلة يأكلها ، وبعد طول تردد ومحاورة ، قرّ قراره واستقر رأيه على أن يأكل منسفا ، وبدأ يشرح لها كيف يريد المنسف ، لحم خاروف صغير ، ويحمر اللحم ، ويبهر بكذا وكذا ، والرز من نوع كذا ، وبدأ يسرد أدق التفاصيل المملة ، ,ومرت نصف ساعة والرجل يشرح ويفصل ، وخرجت لآذان الظهر والرجل يشرح ويفصل .
مشيت وفي نيتي البحث عن علاقة الطعام بشخصية الإنسان ، فوجدت الآتي :  
الرسول r  سأل أهله الإدام يوما : فقالوا ما عندنا إلا خل ، فجعل يأكل ويقول : نعم الإدام الخل ، نعم الإدام الخل . ودعاه رجل ميسور الحال فقدم له الخل ، فصار يقول : بئس الإدام الخل ، بئس الإدام الخل . وذكر أن الرسول r ما عاب طعاما قط كان إذا اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه .  
عن يونس بن عبيد قال : كان عيسى عليه السلام يقول :" لا تصيبُ حقيقةَ الإيمان حتى لا تُبالي من أكلِ الدنيا " .
عتبة بن أبان بن صمعة المعروف بـ "عتبة الغلام " من التابعين ، وسمي بالغلام لأنه في العبادة كان غلام رهان ، كان من الزهاد المجاهدين أستشهد في موقع المصيصة في حرب مع الروم في ، كان عتبة يأخذ الدقيق فيبله بالماء ويعجنه ، ويضعه في الشمس حتى يجف ، فإذا كان الليل أخذه وأكل منه لُقمًا ، فقالت له مولاته : يا عتبة ، لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك ، وبردت لك الماء . فقال لها : يا أم فلان ، لقد سددت عني كلب الجوع . وكان عتبة يأكل خبزا وملحا ويقول : العرس في الدار الآخرة .
 كان الخليفة الأموي معاوية إذا أراد أن يولي واليا دعاه إلى وليمة  ، ووضع بين يديه دجاجة ،  وجعل ينظر إليه كيف يأكل ، فإذا رآه عفيف النفس قنوعا ولاه ، وإذا رآه شرها لقّامـًا لم يوله ، فقد كان يعرف الرجال من صغائر الأعمال .
وعن ذي النون المصري : بداية السخاء أن تسخو نفسك بما في يديك ، ونهايته أن تسمو نفسك عمّا في أيدي الناس ، وأن لا تبالي من أكل الدنيا .
ومن الشعر :
ولقد سألت الدار عن أخبارهم
حتى مررت على الكنيف فقال لي


فتبسمت عجبا ولم تُبدِّ
أموالهم ونوالهم عندي

الأحد، 24 فبراير 2013

لا تبخل بكلمة الحق

لا تبخل بكلمة الحق

اليوم نقول : وماذا ينفع الكلام . آه لو يجدي الكلام !!
وقديما قالوا : ربّ كلمة قلبت همّة ، وربّ همّة أحيت أمّة .
وكان معاوية يقول : ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله r : " إن ولّيت فأحسن " . 
الكلمة الحق كالبذرة ، حيثما رميتها نفعت ولو بعد حين ، فإن تناولها طير عابر فهي لك صدقة ، وإن جرَّها نملٌ غابر فهي له غذاء ، وإن دفنت في أرض القلوب الطيبة أخرجت شجرة طيبة .
فقل كلمة الحق في كل حال ، وتلطّف في وضعها بين أيدي  الناس ، ولا تقذفها في وجوههم .
بشر الحافي من كبار الزهاد وأئمة الصلاح ، كان في أول حياته صاحب لهو وشرب ، يجمع رفقاء السوء في بيته فيسهرون ويشربون ، وذات يوم مرّ رجل صالحٌ بداره ، فسمع أصوات المعازف واللهو في الدار ، فدقَّ الباب ، فخرجت إليه جارية ، فقال : صاحب هذه الدار حرّ أم عبد ؟ فقالت : بل حرّ  ، فقال : صدقت لو كان عبدا لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب . ومضى في سبيله . فلما عادت الجارية سألها بشر عن الطارق فأخبرته ما كان منه ، فلحق بشر بالرجل حافيا حتى أدركه ، فقال له : أنت الذي وقفت بالباب ، وخاطبت الجارية ، فقال : نعم ، فقال بشر أعد عليّ الكلام ، فأعاده عليه ، فمرَّغ بشر خديه بالتراب ، وقال : بل عبد . ثم هام على وجهه حافيا حاسرا حتى عُرف بالحافي ، وقيل له ذات يوم : لم لا تلبس نعلا ؟ قال : لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ . فلا زال على هذه الحالة حتى مات .
وجاء في كتاب ( التبصرة لابن الجوزي  ) :
تعلّق رجل بامرأة ومعه سكين ، لا يدنو منه أحد إلا عقره ، وكان شديد البدَن ، فبينما الناس كذلك و المرأة تصيح ، مرّ بشر بن الحارث ، فدنا منه وحكّ كتفه بكتف الرجل ، فوقع الرجل إلى الأرض ، ومرّت المرأة  ومرّ بشر ، فدنوا من الرجل ، وهو يرشح عرقاً ، فسألوه : ما حالك ؟ قال : لا أدري ، ولكن حاكني شيخ وقال : إن الله ـ عزّ وجلّ ـ ناظرٌ إليك وإلى ما تعمل ، فضعفت لقوله وهبته هيبة شديدة لا أدري من ذلك الرجل . فقالوا له : ذلك بشر بن الحارث ، فقال : واسوأتاه كيف ينظر إليّ بعد اليوم ؟ وحمّ من يومه .. 
ورُوي أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مرّ  ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة ، فإذا فتيان فسّاق قد اجتمعوا يشربون ، وفيهم مغنٍ يقال له زاذان ، يضرب ويغني ، وكان له صوت حسن . فلما سمع ذلك قال ابن مسعود : ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله ، ومضى ، فسمع زاذان قوله فقال : من كان هذا ؟ قالوا : إنه عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله r ، فقام وضرب بالعود على الأرض فكسره .  
الفضيل بن عياض ، شيخ الحرم المكي ، ومن أكابر الصالحين والعباد ، ولد في سمرقند عام  105 هـ وتوفي في مكة عام 187هـ ، كان قاطع طريق قبل أن يتوب ، وكان يعشق جارية ، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تاليا يتلو : ] أَلَمْ يَأْنِِ لِلَذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهم لِذكْرِ اللهِ [ فلما سمعها قال : بلى يا رب ، قد آن ، فرجع فأوى إلى خربة ، فسمع بعض الناس يخوفون بعضهم بالفضيل ، فقال : والله إني تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام .

في ظلال معركة بدر

في ظلال معركة بدر
درس في الـــــــولاء

الأفكار تتغير مع عقارب الثواني ، والعواطف تتغير  مع عقارب الدقائق ،والعادات تتغير مع عقارب الساعات .
 الأفكار تتغير بسرعة لأنهها مرتبطة بالمعرفة والجهل ، وأداة المعرفة العقل الذي يربط بين الأسباب والمسببات ، وسيطرة الإنسان عليه قوية ، أما العواطف فتتغير ببطء ، لأن أداتها القلب الذي يتشرب المواقف ببطء ، وهو الذي يفرض سيطرته على الإنسان ، أما العادات فأداتها موقف المجتمع ، ذلك الموقف الذي تقل فيه سيطرة الفرد إلى حدها الأدنى ، فتغيير النفوس أصعب من تغيير العقول وكلاهما مقدمة لتغيير المجتمع .  لذا كانت معركة بدر يوم الفرقان ، يوم التفريق بين فكرتين ومجتمعين ، وأهم ما فيها من الفصل ، أنها كانت  فاصلة بين  الولاء للقبيلة والولاء للعقيدة .
 نستطيع أن نلخص الولاء بثلاث كلمات مجتمعات متكاملات ، إذا غابت واحدة منهن غاب الولاء ، وهن : المحبة والطاعة والنُصرة . فإذا قلت : أنا أحب الرسول وأطيع الرسول وأنصر الرسول فولاؤك للرسول . وإذا قلت أنا أحب الرسول وأطيع ـ مختارا ـ أبا جهل فإن ولاءك لأبي جهل ، وإذا قلت أنا أحب الرسول وأطيع الرسول ولكن في الحرب أقاتل في جيش أبي جهل فإن ولاءك لأبي جهل .
الولاء في الجاهلية كان للقبيلة ، وكانت رابطة عصبية الدم والقربى الرابطة الأقوى في المجتمع ، رابطة ما زالت من أقوى الروابط في المجتمعات العربية وبعد ألف وخمسمائة سنة ، وقد تبقى ، ولكن إذا تصادمت هذه الرابطة مع الأخوة الإسلامية ، فما سيكون الموقف ؟
يوم بدر كان يوم الفرقان ، فرَّق به بين الحق والباطل ، وبين رايتين ، وبين مجتمعين ، وبين مرحلتين .
كانت رابطة الدم من أقوى الروابط في الجاهلية ، والعصبية القبلية من محركات المجتمع الرئيسة ، لذا كان الجاهلي لا يعرف ولاء إلا لأسرته وعائلته وقبيلته  ، وجاء الإسلام ليدعو الناس إلى رابطة جديدة هي رابطة الأخوة في العقيدة ، وكانت معركة بدر اختبارا حقيقيا لهذا التغيير ، فهل نجح المسلمون في هذا الاختبار ؟
وقع بين يدي المسلمين سبعون أسيرا ، وشاور الرسول الكريم الصحابة في أمرهم ، فكان رأي عمر بن الخطاب أن تضرب أعناقهم ، واقترح أن يَضْرِبَ الأسير أحد أقرابائه  : " ولكن أرى أن تمكنني  من فلان (قريب لعمر) فأضرب عنقه ، وتمكن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " .
كان أبو عزيز من مشركي قريش وحامل لوائهم ، وكان أخوه مصعب بن عمير من مسلمي المدينة ، وحامل لواء المسلمين ، وحدث أن وقع أبو عزيز في الأسر ، ورآه أخوه مصعب فقال لمن أسره : شدّ يدك به فإن أمّه ذات مالٍ ومتاعٍ كثير ، فقال أبو عزيز : يا أخي،هذه وساطتك بأخيك ؟ قال مصعب : إنه أخي في الله ولا أخوة في كفر ، وقد دفعت أمه فداءه أربعة ألآف درهم ، وهو أعلى فداء في أسرى بدر .
وهذا الرسول يقاتل عمّه العباس ، وأبو بكر يقاتل أباه أبا قحافة ، وهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح الذي سمّاه الرسول r أمين الأمة ، والذي قال عنه عمر بن الخطاب : لو كنت متمنيا ما تمنيت إلا بيتا مملوءا برجال أمثال أبي عبيدة عامر بن الجراح . يقاتل في معركة بدر في صف المسلمين ، ويقاتل أبوه في صف المشركين ، فيقتل أباه ، فتنزل آية من السماء تثني على الموقف الجديد : ] لا َتِجدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُونَ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاَءَهُم .. [

الإ يــمــــان الحـــــــي

الإ يــمــــان الحـــــــي

سمّى القرآن الكريم الإيمان حياة والكفر موتا ، ووصف المؤمن بالحي والكافر بالميّت ، قال الحيّ القيوم في كتابه الكريم  :
]أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [
 وقال جلّ وعلا : ] يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [
وقال تعالى : ] تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [
وقال العلماء في تفسير هذه الآية أن الله يخرج المؤمن من الكافر ويخرج المنافق من المؤمن .
فما أهم سمات الكائن الحي ؟
نقول سمات لأن الحياة ما زالت سرّا يُعجِز العلماء ، لذا انصرفوا  للبحث عن مظاهرها  ، فبحثوا في خصائص الكائن الحي ، فأحصوها في ستة أمور  : قابلية النمو ، و القدرة على ترميم الأجزاء أو تبديلها ، والقدرة على التكيف مع المحيط ، والتأثر بالمنبهات ، والقدرة على التناسل .
وإذا عرض المسلم إيمانه على خصائص الحياة ، ستكون :
·   قابلية النمو : فهل ينمو إيمانك يوما بعد يوم وعاما بعد عام ؟ والرسول r يقول : " من كان أمسه خيرا من يومه فهو في نقص ، ومن تساوى يوماه فهو مغبون " .
ويقول إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد : لقد صحبته عشرين سنة ، صيفا وشتاء ، حرا وبردا ، ليلا ونهارا ، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه ما كان بالأمس .
·   القدرة على ترميم الأجزاء أو تبديلها : هل أنت قادر على تبديل السيئات حسنات من خلال الاستغفار والتوبة النصوح ، والتائب عن الذنب كمن لا ذنب له ؟‍‍! الرسول r وهو الذي غفر الله له تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول : " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة " . وانظر إلى عمق كلام ابن الجوزي في هذا المجال : من الصفوة أقوام تيقظوا وما ناموا ، وقد سلكوا وما وقفوا ، فهم في صعود وترقٍ ، كلما عبروا مقاما إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا .
·   القدرة على التكيف : هل تستطيع الحفاظ على إيمانك في الحل والترحال ، في الشدة والرخاء ، في اليسر والعسر ، أم أنت من الذين يعبدون الله على حرف ؟ ! وتدبر قول الله تعالى : ]ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[
·    القدرة على التأثر بالمنبهات : هل تغضب لله إذا انتهكت محارمه ، وهل يوجع قلبك إيذاء المسلمين ودين الله ، وهل تفرح بنصر المؤمنين ؟ !
·   القدرة على التناسل أو التكاثر : هل تسعى لأن يهدي الله على يديك رجلا ، أو يجدد الله بهمتك سُنَّة ، أو تخترع للمسلمين شيئا يكثرون به عددا وعدّة   ؟!
وكما يقاس بتلك السمات إيمان الفرد ، يقاس بتلك الخصائص حياة الجماعة الإسلامية ، والمؤسسة الإسلامية ، والأمة الإسلامية .

ضيق الدنيا وسعة الآخرة

ضيق الدنيا وسعة الآخرة

يقول ابن الجوزي رحمه الله : "خلقنا نتقلب في ستة أسفار إلى أن يستقر بالقوم المنزل :
السفر الأول : سفر السلالة من الطين .
السفر الثاني : سفر النطفة من الظهر إلى البطن .
السفر الثالث : سفر الجنين من البطن إلى الدنيا .
السفر الرابع : سفر الإنسان من الدنيا إلى القبر .
السفر الخامس : السفر من القبر إلى العرض .
السفر السادس : السفر من العرض إلى دار الإقامة ".
ومن يتتبع هذه الرحلة الإنسانية بعد يجد أنها تسير في خطين متوازيين :
الأول : هو السير من الضيِّق إلى الواسع في المكان .
الثاني : هو السير من القليل إلى الكثير في الزمان .
فبداية يكون بعض الإنسان خلية صغيرة في ظهر الأب أو ترائب الأم ] خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ` يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ  [ ، وهو المكان الأضيق ثم يجتمعان في المكان الضيق و هو رحم الأم المهيأ لخلقه  ]أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ` فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ` إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ` فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ [، ثم يخرج من الرحم طفلا إلى الدنيا الواسعة ، ثم يخرج من الدنيا الواسعة إلى الآخرة الأوسع.
 ويرافق هذه الرحلة سلسة من الاصطفاءات ، فهناك الكثير من الخلايا التي يختار منها الله خلايا أقل عدد لتكون حيوانات منوية في الأب وبويضات عند الأم ، ويختار من هذه حيوانا واحدا وبويضة واحدة ليتشكل منها الجنين ويموت الباقي ، ثم يولد الإنسان ، فيختار من الملايين أعدادا محددة لتكون حية بالإيمان ، والباقي تكون ميتة بالكفر ، ثم ينتقل الناس إلى الدار الآخرة ، فيفوز المؤمنون بالحياة الخالدة في الجنة ، ويلقى الكافرون في جهنم .
ويرافق هذه المراحل أزمان تسير من القليل إلى الكثير .فالسفر الأول من الطين إلى السلالة كان في لحظة كن فيكون ، وتخلّق الخلية التناسلية في الرجل و المرأة في ساعات أو أيام معدودة ، وتبقى فترة أيام في خصية الرجل أو رحم الأم ، وإذا ما تم التلقيح يتكون الطفل ويبقى شهورا في بطن الأم ، حتى إذا خرج بقي سنوات في هذه الدنيا ، ويعيش ما شاء الله له أن يعيش ، ثم ينتقل إلى الدار الآخرة ، وهناك الآزال والآباد ، والسنة بألف سنة مما نعد في هذه الدنيا .
فرحلة الإنسان يصاحبها ثلاثة أبعاد : المكان من الضيق إلى الواسع ، والزمان من القليل إلى الكثير ، والاصطفاء سمة ترافق مراحل سفر الإنسان .
الآن تدبًّر المواقف التالية اعتمادا على ما تقدم :
قول الرسول r :
" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "  .
" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " .
وانظر إلى عمق فهم ربعي بن عامر ، وهو  يجيب قيصر الروم عن سبب خروج المجاهدين وجيوش الفتح إلى بلاد الدنيا :
" ابتعثنا الله تعالى لنخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة " .